: آخر تحديث

بين نطنز وتل أبيب… حين تتحدث الصواريخ باسم التاريخ

4
3
3

 

لم تعد الحرب بين إيران وإسرائيل افتراضاً في تقارير المراكز البحثية ولا مشروعاً مؤجلاً في خطط البنتاغون، لقد خرجت من الظل، لكنها لم تدخل الضوء، بل اختارت منطقة رمادية تتحدث فيها الصواريخ بلغة قديمة، حيث كل قذيفة جملة من التاريخ، وكل ضربة فصل من عقيدة لم تعد تُكتب بالحبر، بل بالبارود المبرمج…!

ما يجري اليوم ليس مجرد تصعيد متبادل، بل إعادة تعريف لمعادلة الردع في الشرق الأوسط، ولعبة مميتة بين عقلين لا يعترفان بالتهدئة الدائمة: عقل الثورة وعقل الهيمنة.

من نطنز إلى تل أبيب، ومن صعدة إلى الجليل، هناك خيوط متشابكة من نار، تشدها أصابع لم تعد تنام، وترعاها عيون لا تثق بأحد. إسرائيل، الكيان الذي يتنفس على حدود الخوف، لم تعد تكتفي بالدفاع، ومشروعها في العقود الأخيرة أصبح هجومياً مبنياً على الضربات الاستباقية الحقيقية والاستعراضية، وقتل الخطر قبل أن يتنفس….!

وإيران التي بنت نظامها على فكرة المقاومة الكونية، باتت تُحاصر في كل اتجاه، لكنها تتصرف كمن يرى في الحصار دليلاً على الصواب لا مدعاة للتراجع…!

بين الطرفين، لا توجد خطوط حمراء، بل خطوط ذكية، تتحرك بحسب الظروف الدولية، وتعيد تشكيل ذاتها مع كل تغيير في البيت الأبيض أو في مزاج موسكو. لكن كل هذا لا يُغيّر جوهر الصراع: معركة بقاء بين مشروعين، أحدهما يعتبر الآخر طارئاً يجب محوه، والآخر يراه تهديداً وجودياً لا يُحتوى إلا بالنسف، والنسف هنا ليس مجازياً، بل خطط موضوعة على الطاولة، تنتظر فقط التوقيت… أو الخطأ القاتل.

حين ضربت إسرائيل قوافل الحرس الثوري في دير الزور، كانت الرسالة واضحة: لسنا بحاجة إلى حرب شاملة لنقضم نفوذك. وحين ردت إيران بصواريخ طالت الجولان، كانت الرسالة مضادة: لسنا بحاجة إلى قنبلة نووية كي نرعبك. هذه اللغة المشفّرة بين الطرفين أصبحت الآن أكثر فظاظة ووقاحة وعبثية، فلم يعد أحدهما يخجل من إعلان الضربة أو إنكارها، بل بات الطرفان يعلمان أن الإنكار لم يعد يجدي في عصر الأقمار الصناعية، بل إن الضربات باتت عروضاً دعائية موجّهة للحلفاء والخصوم على حد سواء.

في عمق هذا المشهد، هناك وكلاء يتحركون كقطع شطرنج على رقعة ملتهبة: ما تبقى من حزب الله، وفلول الحوثي، وشظايا فصائل الحشد، وحتى بعض الميليشيات البعيدة في أفغانستان. هؤلاء ليسوا مجرد أدوات، بل أجزاء من منظومة إيرانية عابرة للحدود، تطمح لتطويق إسرائيل بالنار من أربع جهات، وتحويل كل معركة جزئية إلى استنزاف طويل لا يمكن السيطرة عليه. بالمقابل، تنسج إسرائيل شبكة دفاع وهجوم على امتداد الشرق الأوسط، من عمليات اغتيال دقيقة في طهران، إلى ضربات دقيقة في العمق، إلى تحالفات أمنية وتكنولوجية في مناطق نفوذها التقليدية. لكن السؤال الحقيقي ليس من يربح الجولة القادمة، بل من يستطيع أن يكتب النهاية. فهذه ليست حرباً بين جيشين، بل بين عقليتين: واحدة تؤمن بأن نهاية العالم تستحق الانتظار من أجل ظهور المهدي، وأخرى تعتقد أن البقاء للأقوى، حتى لو كان الثمن هو إشعال الأرض كلها. وهذا ما يجعل كل جولة تبدو وكأنها بروفة لنهاية أكبر، وربما حتمية.

المعركة المقبلة، إن وقعت، لن تكون على الحدود فقط. ستكون معركة بالذكاء الاصطناعي، بالحرب السيبرانية، بالتشويش الفضائي، وبالاقتصاد الرمزي. فإيران لا ترى في الضربة العسكرية نهاية، بل بداية لتفجير بيئات جديدة في آسيا وأوروبا والبحر الأحمر وأفريقيا، حيث يمكنها أن تضرب دون أن تترك بصماتها واضحة. وإسرائيل تدرك هذا، وتُطوّر حالياً ما تسميه الردع المسبق، وهو أن تُفكك الخطر قبل أن يتشكّل، وتكسر الطموح قبل أن يتحول إلى قدرة.

ومع هذا كله، هناك لاعب ثالث لا يظهر في الصور، لكنه يحرك الكاميرا من الخلف: الولايات المتحدة. هي لا تريد حرباً شاملة الآن، لكنها لا تمانع في معارك محدودة تُنهك الجميع دون أن تُسقط أحداً. تريد شرق أوسط مشلولاً، لا يموت ولا يعيش، حتى يبقى التوازن الأمريكي هو الوحيد القادر على ضخ الدماء في الجسد المتعب. وإذا فشلت في ذلك، فهناك موسكو وبكين تنتظران بشغف أن تقع الحرب لتُعيد تشكيل النفوذ في لحظة الفوضى الكبرى.

الخليج العربي أيضاً ليس بعيداً عن المشهد. السعودية تقرأ هذا الصراع جيداً، وتدرك أن أي انفجار بين إيران وإسرائيل قد يعبر الجغرافيا إلى اقتصاد الطاقة، وسلاسل الإمداد، والعمق الأمني. ولهذا تعمل الرياض على خط دبلوماسي ناعم يُطفئ النيران، فالسياسة في هذه اللحظة مثل السير على سلك كهربائي: أي انحراف بسيط يعني احتراقاً لا يُطفأ إلا بالندم. لكن قيادة القطب الأوسط عالمياً مهارة سعودية بامتياز، وفي خلفية هذا كله، يعلو سؤال لا يطرحه الساسة، لكن يهمس به المفكرون: ماذا لو كانت كل هذه الحرب مجرد فخّ زمني؟ ماذا لو كنا نعيش في دوامة تصنع فيها القوى الكبرى عدواً لكل طرف، كي تُديم الصراع، وتبيع السلاح، وتُجهض أي محاولة للنهضة؟ أليس غريباً أن تظل إسرائيل وإيران عدوّين في العلن، لكنهما لا يمنعان تجارة سرية عبر وسطاء؟ ألا يبدو هذا الصراع كأنه مسرحية كتبتها يد واحدة، لكنها وزعت أدوارها ببراعة؟

بين نطنز وتل أبيب، لا شيء ثابت… إلا فكرة الدمار. أما الشعوب، فهي آخر من يُستشار وأول من يُقصف. أما العقول، فهي تُشترى وتُباع. وأما الحروب، فهي لم تعد تُخاض فقط بالسلاح، بل تُخاض بالرؤية… وبمن يجرؤ على أن يقول: لا لهذه اللعبة.

وهنا، في هذا المفصل الحرج من التاريخ، لا نحتاج فقط إلى جيوش قوية، بل إلى عقول أقوى. فالقوة لا تكفي، إن لم يكن العقل من يصوغها. والصرخة الأخيرة في أي صراع… لا تُطلق من فوهة بندقية، بل من ضمير لا يزال حياً في عالم مبرمج على الصمت.

أما ما حدث اليوم فليس مجرد تصعيد… بل انكشاف للنية المضمرة. الضربة الإيرانية الكثيفة لم تكن انفعالاً، بل نتيجة قرار محسوب بدقة، اختارت فيه طهران أن تُجرّد الردع من رمزيته وتدخله في الفعل. أكثر من 150 صاروخاً ومئة مسيّرة، بعضها مرّ، وبعضها مُرّر… لكن جميعها حمل رسالة واحدة: نحن في الزمن الذي يُكتب فيه التوازن بالنار لا بالمفاوضات. إسرائيل، رغم براعتها في الاعتراض، تلقت إشارة واضحة: العمق لم يعد آمناً. واللاعبون الصامتون من موسكو إلى بكين يراقبون الحسابات تتغير. إنها لحظة التحوّل من الصراع بالوكالة… إلى اختبار النوايا العارية. الحرب لم تبدأ اليوم، لكنها توقفت عن التظاهر بأنها لم تبدأ.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.