ميكافيلي لم يكتب الأمير بوصفه نصاً سياسياً بقدر ما صاغه كتعويذة باردة لذوي النفوس المشوّهة!
نعم، أنا أعني ما قرأت، هو ليس كتاباً في فن الحكم، بل دليلٌ متقن للهروب من الفشل عبر تبرير الانحطاط، يظهر للقارئ وكأنه يقدم وصفة للسلطة، لكنه في العمق يبث لعنة فكرية تسمّم مفهوم الدولة، وتختزلها إلى سلسلة من الخدع، والاغتيالات، والصفقات المبتذلة، وكأن السياسة لم تُخلق لتنظيم الحياة، بل لتأجيل الانهيار وإدارة الجريمة الرسمية تحت غطاء الاستقرار.
منذ السطر الأول، يفصل ميكافيلي السياسة عن الأخلاق كما تُفصل جثة عن ظلّها. فيقول: من الأفضل للأمير أن يُخاف أكثر من أن يُحب، إن لم يستطع الجمع بين الاثنين، كأن الحب ضعف، وكأن الولاء لا يُبنى إلا على الرعب. وهو لا يتردد في دعوة الأمير إلى أن يكون (أسداً وثعلباً) لا مواطناً عادلاً، ولا إنساناً فاضلاً، بل مفترساً ذكياً، وكأن الحاكم يجب أن ينقضّ على شعبه تارة، ويتسلل بين أعينهم تارة أخرى، لا ليحميهم، بل ليبقى في موضع السيطرة. أي فلسفة هذه التي تجعل من الطعن في الظهر مهارة قيادية، ومن قتل الأبرياء شرطاً للاستقرار؟ إذا كان الحُكم لا يصمد إلا بالخوف، فإن الزعيم في هذه الحالة ليس قائداً… بل لصٌّ مدجج بالتبريرات.
ثم يقدم أشهر سمومه المغلفة بعقلانية زائفة: (الغاية تبرر الوسيلة)، لكنها عبارة خادعة ومخادعة، لأنها تفترض أن الغاية دائماً نبيلة، بينما يخبرنا الواقع أن الطغاة لا يملكون غايات عليا، بل نزوات سُفلى تتنكر في عباءة الدولة. ما لم يقله ميكافيلي أن الغاية نفسها تُصبح تافهة حين تُبنى على الدماء. وإذا كانت الوسائل قذرة، فما النفع من الغاية إن جاءت بيد ملطخة؟
من منظور علم النفس السياسي، ارتبطت الشخصية الميكافيلية بسمات (الثالوث المظلم): النرجسية، السيكوباتية، والميل للتلاعب. وتلك الصفات ليست أدوات نجاح، بل مؤشرات لانهيار داخلي في البُنية النفسية للسلطة. فحين يتحول الحاكم إلى آلة باردة تستعمل الأكاذيب والسكاكين بحجة المصلحة العليا، فإن الدولة كلها تبدأ في التآكل من الداخل، لأن منطق البقاء هذا لا يراعي الإنسان، بل يستخدمه وقوداً!
ثمّة من يحاول إنقاذ ميكافيلي بتأويل دفاعي: كان ساخراً، كان يكتب بهجاء مبطّن، كان يحذر لا يُرشد. ولكن هذا الدفاع مضحك ولا يقنع حتى الأطفال، فالرجل لم يكتب برمز أو تهكّم، بل قدّم وصفاته الدموية بوضوح يُشبه ضربة سكين. لم يكن يسخر من الحاكم السيئ، بل يمجّده. ولو كان فعلاً يريد الهجاء، لأخفى على الأقل سُمّه في عسل الفلسفة، لا أن يقدّمه صافياً كتعويذة لذوي القلوب المظلمة. ففي قوله: (يجب على الأمير أن لا يحافظ على كلمته إن كان هذا ضاراً به)، لا يمكننا أن نجد أي نية ساخرة أو رمزية مستهزئة، هذا تصريح واضح بالخيانة كمبدأ إداري.
خطورة كتاب الأمير لا تكمن فقط في محتواه، بل في طريقة انتشاره. لقد تحوّل إلى مرجع للدكتاتوريين، أداة إلهام لكل من يطمح إلى كسب الولاء بالسلاح، لا بالمحبة. من نيرون إلى ستالين، من طغاة القرون الوسطى إلى الطغاة الإلكترونيين في زمن المراقبة الشاملة… كلهم وجدوا في نص ميكافيلي صكّ غفران للعنف، ومرافعة طويلة ضد الضمير. فحين تقرأ: (ليس من الضروري أن يمتلك الأمير كل الصفات الحميدة، بل يكفي أن يبدو كما لو كان يمتلكها)، فإنك تدرك أن النفاق تحوّل إلى عقيدة، والمظهر إلى أداة حرب.
لكن ماذا عن العلم؟ ماذا عن الاجتماع؟ ماذا عن الإنسان نفسه؟ السياسة اليوم في أبسط معاييرها ليست فن السيطرة، بل فن البناء المشترك وتكتمل القوى، وكل مجتمع يُبنى على الخوف، سينهار عاجلاً، لأن كرامة الإنسان لا تُربّى في حظائر الرعب، بل في ساحات المشاركة. الميكافيلية ليست فلسفة، بل قناع وقح للعُري الأخلاقي. ليست واقعية كما يدّعون، بل قصرٌ رملي بُني على رماد.
والمفارقة أن الكتاب الذي يُعلّم الحاكم كيف يبقى… لم يمنح أي دولة الخلود. كل العروش التي تأسست على تعاليمه سقطت تحت أقدام الجياع، وتهاوت أمام شعوب استردّت كرامتها تحت الأنقاض. فكيف لكتاب يُبجَّل أن يُستخدم كمرجعية للخراب؟ كيف يُصنَّف كتحليل، وهو في جوهره توصيف فجّ لوحشنة السلطة؟ كيف يقبل العقل المعاصر أن يُدرّس هذا النص كمصدر للحنكة السياسية، بينما هو خطاب يُداري سكر السلطة، ويفتح للشر أبواب الحكم تحت ستار الواقعية السياسية..؟
ربما الأسوأ من الأمير، هو أن الكثيرين قرأوه ولم يشككوا فيه. تعاطوا معه كحقائق لا تُمس، بل تُدَرّس في كليات السياسة، وتُقتبس في خطابات المستبدين. لكن الحقيقة أن ميكافيلي لم يكن عبقرياً، بل ناقلاً مهووساً بالجانب المظلم من الإنسان، أعطاه شرعية لفظية، وبارك للوحش في داخلنا أن يرتدي تاجاً. واختزل المجتمع في الحاكم، واختزل الحاكم في خديعة، واختزل الأخلاق في فتات خطابي يُرمى ساعة الحرب.
ولو أردنا أن نفنّد نظريته بميزان العقل، يكفي أن نُذكّره أن كل نظام سياسي، في النهاية، لا يُقيَّم بمدة بقائه، بل بمقدار العدالة التي يتركها خلفه. القسوة التي بررها ميكافيلي ليست ضماناً للثبات، بل وصفة للفوضى المؤجلة. الشعوب قد تُرهَب… لكنها لا تُروَّض. قد تُخدع… لكنها لا تنسى. والتاريخ لا يحترم المنتصرين الملطخة أيديهم بالدماء… بل ينحاز دائماً، وفي اللحظة الحاسمة، لمن اختار أن يكون إنساناً قبل أن يكون حاكماً.
الأمير إذاً ليس كتاب دولة… بل نشيد جنازة طويل لعالمٍ بلا ملامح. عالمٍ يحكمه الخوف لا القانون، المكر لا الفكر، القوة لا العدالة. وحين تتبنّى الدول هذا المنطق، فإنها لا تحكم… بل تحكم على نفسها بالفناء.
وهكذا، حين نقرأ الأمير، لا ينبغي أن نقرأه لنتعلم كيف نحكم… بل لنعرف كيف لا نحكم.