في أحد أحياء الرياض الراقية، وقّع أحمد، وكيل عقاري، عقد بيع فيلا فاخرة بقيمة 10 ملايين ريال. المشتري، رجل أعمال غامض، دفع المبلغ نقدًا دون تردد، رافضًا أي تمويل بنكي. بدت الصفقة مثالية، لكن شيئًا ما أثار قلق أحمد: لا سجل مالي واضح، ولا تفاصيل عن مصدر الأموال. بعد أشهر، سمع أن الفيلا بيعت مرة أخرى عبر شركة وهمية، واختفى المشتري. لم يكن يعلم أنه وقّع على صفقة قد تكون جزءًا من عملية لغسل أموال غير مشروعة. هذه القصة تكشف تهديدًا خفيًا يتربص بالسوق العقاري السعودي، يُشوه أسعاره، يُضعف ثقة المستثمرين، ويُعيق طموحات رؤية 2030. لكن السعودية ليست وحدها، فدول أخرى واجهت هذا الخطر وطورت حلولًا مبتكرة، فكيف تُواجه المملكة هذا التحدي وما الذي يمكن أن تستقيده؟ تُوضح الهيئة العامة للعقار أن غسل الأموال يمر بثلاث مراحل: أولًا، إدخال الأموال من أنشطة غير مشروعة كالاتجار بالمخدرات عبر شراء عقار نقدًا لتجنب التدقيق، مستغلة قيمته المستقرة لتحويل الأموال القذرة إلى استثمار نظيف. ثم مرحلة التمويه، حيث تُنفذ معاملات معقدة كتحويل الملكية بين شركات وهمية أو تكرار البيع والشراء لإخفاء المصدر. وأخيرًا الدمج، إذ يُباع العقار، وتُودع الأرباح كمكاسب مشروعة في حسابات بنكية أو تُستثمر في مشاريع أخرى بعيدة عن الشبهات. هذه العمليات تضرب السوق السعودي بقوة: تُرفع الأسعار بشكل اصطناعي في مدن مثل الرياض وجدة، مما يُصعب امتلاك السكن ويُفاقم أزمة الإسكان، وقد تُؤدي إلى فقاعات عقارية تنهار إذا توقف التدفق. المعاملات المشبوهة تُثير قلق المستثمرين، فتُقلل الاستثمارات الأجنبية، مما يُعيق جذب رؤوس الأموال. مستثمر أجنبي قد يتردد في تطوير مشروع سكني إذا اشتبه في صفقات غير شفافة، فيتراجع الاستثمار في مشاريع مثل نيوم أو القدية. اقتصاديًا، تُعزز الأنشطة غير القانونية، مما يُقلل كفاءة تخصيص الموارد، وقد تُسبب تضخمًا أو تُعرض المملكة لمخاطر قانونية دولية إذا لم تُحترم معايير مجموعة العمل المالي. اجتماعيًا، توسّع الفجوة بين الشرائح، حيث تصبح العقارات بعيدة عن متناول الشباب، مما يُثير استياءً ويُقلل الثقة في المؤسسات، مهددًا أهداف برامج الإسكان. الهيئة العامة للعقار تتصدى لهذا التهديد بنهج شامل. فهي تدير منصات مثل البورصة العقارية وفرز وملاك لتوثيق المعاملات، مما يُقلل الصفقات النقدية غير المسجلة، وسجلت 51 ألف و293 قطعة في شرق الرياض عام 2024، مع خطط لتغطية المدينة المنورة، لتتبع الملكية ومنع المعاملات الصورية. توفر البوابة الجيومكانية بيانات دقيقة، مما يُصعب إخفاء الصفقات المشبوهة. تشريعيًا، تُطبق نظام مكافحة غسل الأموال بعقوبات تصل إلى 15 عامًا سجنًا وغرامات 7 ملايين ريال، وتُنظم الوسطاء عبر تراخيص إلزامية مع واجب الإبلاغ عن الشبهات، وتتعاون مع وحدة مكافحة غسل الأموال و"ساما". توعويًا، أطلقت في 11 أبريل 2025 حملات لتثقيف الجمهور والوكلاء، مع دليل إرشادي للعلامات الحمراء، وتُدرب الوكلاء على اكتشاف دفعات نقدية كبيرة. دوليًا، تلتزم بتوصيات FATF، مما يشمل إجراءات "اعرف عميلك"، وتستخدم الذكاء الاصطناعي مع "سدايا" لكشف أنماط مشبوهة. هذه الإجراءات تُعزز الثقة، تحد من التضخم، وتدعم الإسكان، لكنها قد تُثقل المنشآت الصغيرة أو تُبطئ الصفقات، مما يتطلب تثقيفًا مستمرًا. دول أخرى تقدم دروسًا قيمة. في كندا، واجهت فانكوفر تدفق أموال غير مشروعة فرفعت الأسعار بشكل صاروخي، فاستجابت بضريبة 20% على المشترين الأجانب عام 2016، وسجل عام للملكية يكشف المالكين الحقيقيين، مما قلل الصفقات المشبوهة بنسبة 30% في سنوات. أنشأت وحدة تحليل مالي تراقب التحويلات الكبيرة، مما عزز الشفافية. المملكة المتحدة أصدرت قانون "الأموال غير المفسرة" عام 2017، يُلزم أصحاب العقارات الفاخرة بإثبات مصدر أموالهم، فتراجعت المعاملات المشبوهة في لندن بنسبة 15% بحلول 2020، وسجل للشركات الأجنبية عام 2022 كشف شبكات وهمية. أستراليا شددت الرقابة عبر وحدة AUSTRAC، تُلزم الوكلاء بالإبلاغ عن دفعات نقدية تزيد عن 10 الاف دولار، مع غرامات تصل إلى مليون دولار، مما خفض الصفقات النقدية بنسبة 25% في سيدني وملبورن. هذه التجارب تُظهر أن الشفافية والتشريعات الصارمة تُعطي نتائج. السعودية تسير على الطريق الصحيح، لكنها تستطيع تعزيز جهودها بتبني ممارسات مثل إنشاء سجل عام للملكية كما في كندا للحد من الشركات الوهمية، أو فرض تدقيق إلزامي على الصفقات النقدية الكبرى كما في أستراليا لتقليل الدفعات المشبوهة. كما يمكن توسيع برامج التدريب للوكلاء العقاريين لتغطي المزيد من المناطق، وتطوير أنظمة ذكاء اصطناعي متقدمة لتحليل الصفقات بشكل لحظي، مع تعزيز التعاون مع الجهات الدولية لتتبع الأموال عبر الحدود. لكن هذه التوصيات تواجه تحديات: الرقابة المشددة قد تُثقل المنشآت الصغيرة بتكاليف إضافية، كما رأينا في المملكة المتحدة حيث شكا بعض الوكلاء من بطء الصفقات، والتدقيق المكثف قد يُثني مستثمرين شرعيين إذا شعروا بتعقيد الإجراءات. كذلك، تتطلب الرقمنة الكاملة استثمارات ضخمة في البنية التحتية، وقد تواجه مقاومة من أطراف اعتادت على المعاملات النقدية التقليدية. غسل الأموال يُشوه الأسعار، يُضعف الثقة، ويُفاقم أزمة الإسكان، مهددًا استقرار القطاع وأهداف الرؤية، لكن الهيئة، بدعم من تجارب عالمية، تبني سوقًا أكثر أمانًا. مع موازنة دقيقة بين الرقابة والمرونة، يمكن للسعودية أن تحول سوقها العقاري إلى نموذج عالمي للشفافية والاستدامة، يحمي مواطنيها ويدعم طموحاتها الاقتصادية.
أموال الظل تهدد أسواق العقار في السعودية
مواضيع ذات صلة