الرباط: اشتعل رأس نزار بركة، الأمين العام المنتخب لحزب الاستقلال المغربي، شيبا قبل الأوان، ومنذ سنوات؛ علما أنه من مواليد عام 1964، ولم يكمل بعد عقده الخامس.
لم يتصد لمقاومة زحف الشعيرات البيضاء على رأسه في غضون عقده الرابع، مثلما يفعل بعض المتشبثين بسواد الشعر، خاصة وأن الأمين العام له رصيد محترم يغطي فضاء ي رأسه، يجوز له صبغه إن حرص على الظهور ب "لوك" مثير.
ومن المؤكد أن " الشيخوخة " المبكرة هنا، ليست مرتبطة بعامل السن؛ ربما للوراثة دور حاسم فيها، ما جعل الأمين العام الجديد يقبلها ويتعامل معها كمكون جمالي طبيعي،لا يفقده حيوية الشباب وإنما أكسبه وقارا قبل الأوان وحكمة مضافة .
اجتهد الأمين العام الجديد لحزب الاستقلال ، منذ أن كان طالبا. انكب بعد تخرجه، للنهل من المعرفة في مجال تخصصه : الاقتصاد والمالية ، باعتبارهما وسيلة العيش الفردي والجماعي ومفتاح التقدم والازدهار.
اتبع في مساره، خطين متوازيين : تعميق التكوين الأكاديمي ليرضى عنه طلبته في كلية الحقوق والعلوم الاقتصادية بجامعة محمد الخامس بالرباط ، وهي المؤسسة التي تخرج منها الأستاذ نزار بركة ، بينما كان بإمكانه متابعة دراسته العليا في الخارج على غرار الكثير من أبناء الطبقة الوسطى في المغرب الذين يقتطعون مبلغا من مدخولهم المالي، لضمان تعليم جيد لأبنائهم في الخارج ، اعتقادا منهم أن تلك التضحية تؤهل أبناءهم لاحقا ،وفي غالب الأحيان ، لتبوأ وظيفة محترمة بعد عودتهم إلى الوطن، في القطاعين الخاص أو الحكومي.
لم ينبهر نزار بإغراء الخارج . والراجح انه أدرك منذ البداية أن مكانه الطبيعي في الداخل ، ليكون قريبا من مصدر الأوامر، ورهن إشارة المنادي ،جاهزا حينما تقتضي الضرورة اضطلاعه بدور المسؤولية ، تعتبر القيادة أنه مؤهل لها، خدمة للوطن أولا ،وفي المقام الثاني تأتي مصلحة التنظيم الحزبي الذي ينتسب إليه باعتباره البيت الذي رضع فيه مبادئ الوطنية ، ولا يتصور العيش في تنظيم أخر غيره .
سيشد نزار الرحال إلى الخارج فيما بعدن لفترة محدودة ، لتحضير دكتوراه في فرع دقيق من العلوم الاقتصادية ؛ يبدو أنه لم يجد في الكلية من يشرف على رسالته بين الأساتذة المغاربة . شجعه على ذلك أيضا إتقانه للغات أجنبية لا سيما الفرنسية والإسبانية ، مكنتاه من الاستزادة من العلم .
وفي جميع الأحوال فإن دفاع الباحث نزار عن أطروحة الدكتوراه في الخارج ، كان بغاية تحديد معارفه ، وتثبيت وضعه الأكاديمي كأستاذ جامعي في الكلية ، يفترض في من يضطلع به حصوله على درجات علمية رفيعة .
والمؤكد ان الأمين العام الجديد لم يفصح عن رغبة جامحة في السفر إلى الخارج كما فعل الكثير من أقرانه ، ومن وسطه ، ليتحرروا من قيود المجتمع والعائلة ، فينعموا بمتع الشباب .
في هذا السياق ، ربما كان نزار واعيا بالحدس قبل اليقين، ومنذ صباه، أن مكانه الطبيعي في أرض الوطن حيث ينتظره مستقبل ما ، في كنفه، خلال محطات العمر، قد يطول أو يقصر ترقيها.
ينحدر زعيم "الاستقلال" الجديد ، اجتماعيا وأسريا ، من عائلة شريفة من جهتي الام والأب : "آل بركة" معروفون في شمال المغرب بالسمعة الطيبة وسط الفئات الشعبية،
ومن جهة إلام، فإن جده هو القطب الوطني والسلفي الكبير الراحل علال الفاسي .يبدو نزار وكأنه ورث عن الزعيم بعض الملامح والقسمات الجسمانية .
هذا الانتساب المزدوج ،منح الشاب نزار وجاهة رمزية وتلقائية، في المجتمع المغربي،هي أقرب ما تكون إلى " بركة " متوارثة بين أولياء الله الصالحين.
لا ندري طبيعة الوصايا والمواعظ الأخلاقية، التي تلقاها الفتى نزار من والديه، لينطبع سلوكه الشخصي بها بعد اكتمال النضج، بخصوص علاقته بالناس والنظرة إليهم والتعامل معهم ؟
يتفق كثيرون، في هذا السياق على أن نزار شديد التهذيب ، جم التواضع بلا افتعال، قريب من وإلى الناس . يحسن التصرف مع الخاصة والعامة ، دون تكبر أو استعلاء أو فخر بالأصل العائلي والمحتد الشريف . هو ميال بطبعه إلى الخجل والاقتصاد في الكلام .وهذه سلبية في شخصيته قياسا إلى معايير الزعامة التقليدية . إنه إنسان مفكر في المجتمع أكثر من كونه خطيبا يلهب الجماهير ، لا يطاوعه صوت جهوري.
لما أدرك منصب الوزارة، أولا في حكومة صهره ،والد قرينته ، عباس الفاسي، ثم في حكومة عبد الاله ابن كيران ، التي استقال منها امتثالا لقرار حزبي لم يكن مقتنعا به ؛ حرص الوزير بركة في الولايتين على الظهور ، أمام الرأي العام، والطبقة السياسية ، بصفات وأخلاق الأستاذ الباحث ،لا تفارقه محفظة سوداء كبيرة الحجم ،يحملها ثقيلة ومنتفخة بالكتب والملفات.
سلوك تلقائي أكسبه تعاطفا وتقديرا من شرائح عريضة من الاستقلاليين، قبل أن يراهن بعضهم، على انه سيُصبِح في يوم من الأيام، قائد سفينة حزبهم. وهو يدرك الآن أنه ليس في مقام وقامة وعلم وهيبة وجهاد جده "علال".لم يخطر بباله يوما أن يتشبه بالوطني الكبير والعالم الجليل ، من قاسى ويلات السجن، ومرارة المنفى ؛غير أن ما يمكن تسميته ب " الضمير الجمعي الاستقلالي" نظر إلى الحفيد " نزار" والابن " عبد الواحد" كمرشحين مثاليين لقيادة الحزب بعد رحيل الكبار أو تقدم العمر بمن بقى منهم من الرعيل الأول للوطنية المغربية.وكأنهم يقولون العودة إلى الأصل آتية لا ريب فيها .
الغيورون على العائلة ، انطلاقا من قيم الوفاء لتضحياتها يضمرون لها التقدير والثناء، كما أن صورة الزعيم "علال" ما زالت ، وسط الأسرة الاستقلالية ، محفوظة ومحاطة بالاحترام الشديد " منذ أن توفي بكيفية مباغتة عام 1974 في العاصمة الرومانية بوخارست ، ولم يبلغ بعد منتصف عقده السادس (من مواليد 1910) لكنه فرح بالحفيد قبل الرحيل، تركه صبيا في حوالي السن العاشرة.
يتولى نزار بركة الأمانة العامة للحزب، وهو واع أكثر وقبل غيره، بأن التنظيم يمر بوضعية حرجة ومفصلية ؛ لا يتكتم عليها أو يخفيها أغلب القياديين القريبين أو من على مسافة من مركز المراقبة والتحكم .
تنتظره مهمات عسيرة ، يبدو بعضها متشابكا : كيف يمكنه تصفية تركة ومخلفات الولاية الماضية دون إثارة حفيظة المتورطين فيها أو المتحمسين لها بحسن أو سوء نية ولأسباب غير ذات علاقة بالسياسة الناجعة؟
استقلاليون، تحمسوا لاستلام ،حميد شباط، مقاليد سلطة الحزب ، بناء على حسابات خاطئة ، برروا مواقفهم حيال شباط أنه ينتسب إلى عائلة متواضعة من نواحي مدينة فاس ؛امتهن مهنا بسيطة قبل التدرج بسرعة فائقة في سلالم الذراع النقابي للحزب "الاتحاد العام للشغالين بالمغرب " إلى أن عزز مواقعه الحصينة في عرين النقابة الحصينة ، فبدأ منها قصف القيادة الحزبية السابقة ، استعدادا للزحف على ساحة " باب الأحد" حيث المقر العام لحزب الاستقلال ، ليدخله دخول الفاتحين بعد مؤتمر عاصف،وصورت المعركة على أنها انتصار للضعفاء على أبناء الذوات.
عكس المؤتمر السابق مخاضا عسيرا في بنية الحزب العميقة والسطحية، وهذا أمر طبيعي في مجتمع تغير وتحول كل شيء فيه ؛ لكن أسوء ما وقع هو تمكن "الشعبوية" من مفاصل حزب تأسس على الاعتدال والتساكن بين مكوناته لدرجة أن محللين سياسيين يشبهونه ب "زاوية استقلالية" ( بالمفهوم الديني) ليس تهكما بل إشارة إلى روح الوئام والتآخي التي تهيمن على الحزب .
هل كان شباط المرشح المناسب في حينه ، لإحداث تغيير نوعي في توجهات ومسار حزب الاستقلال؟
سؤال شاسع والجواب عنه مؤجل يتطلب الإلمام بمعطيات ستظل غائبة إلى حين.
ما يجب التذكير به هنا هو أن السياسيين المحترفين، يتوجسون دائما من الحلفاء النقابيين.فهؤلاء تحركهم مطالب مادية فئوية ولا يتورعون عن استعمال كل الوسائل والذرائع لجني مكاسب ، بما فيها حشد الشارع وتهييج الجماهير لفرض سيطرة العمال على مشغليهم في القطاعين الخاص والعام .اندفاع يتنافي مع طبيعة الأعراف الحزبية ،القائمة على الحوار والتفاوض والبحث عن حلفاء وتحسين موازين القوى باللتي هي أحسن.
وباستقراء وتحليل فترات الاحتقان السياسي في المغرب الحديث ، يصدم الملاحظ أن النقابات كانت في معمعة الأحداث والاحتقانات ،بل يمكن القول إن حماستها وخلطها بين أدوار العملين الحزبي والنقابي ؛تسبب في حدوث أضرار وخسائر بالغة لحقت المغرب وعطلت تطوره الديمقراطي، مثلما ألقت نفس الممارسات بظلالها على الوضعية الداخلية لأحزاب وتحديدا ذات التوجه اليساري، فتفجرت الأوضاع التنظيمية في صفوفها ما أدى إلى انقسامات حادة ومتكررة .
لا يعني هذا النقد ، تبييض وجه السلطات الرسمية ، فكثيرا ما كانت حساباتها وأخطاؤها سببا في ضرر أفدح.
لقد آن الأوان للبحث عن قيادات جديدة لتدبير الشأن الحزبي بالمغرب. لابد من الإقرار بصعوبة مهمة الإصلاح فوق أنقاض والانتقال من وضع متهادي إلى صرح متماسك .
الموانع لا حصر لها ، لكن الإرادة السياسية قادرة على قهرها ، فهي في خاتمة المطاف مرتبطة باعوجاج في السلوك الشخصي لبعض الفاعلين الحزبيين ولا تمس العمل السياسي في حد ذاته.
سيكون نزار بركة محاورا مقبولا للسلطة ، تثق فيه وتطمئن إليه، كونها تعلم مسبقا أنه لن يباغتها بحركات غوغائية ، تجعله يغير المواقع والتحالفات والولاء ؛ يتنصل من المواثيق الملزمة ؛ كما أنه ليس زعيما مستوردا أو وافدا دخيلا على الحزب وطارئا على المشهد الحزبي ،وإنما هو نبت طبيعي في الحقل الاستقلالي. .
سيعينه طبعه الهادئ وزهده في حب الظهور والزعامة المحتكرة للسلطة،على تذليل كثير من الصعاب.
هو يدرك جيدا أن «تهمة" المرشح الموحى به من طرف السلطة، ستلاحقه وسيزايد عليه خصومه، مدة من الزمن . يستطيع أن يفسد خططهم ما دام زاهدا في المال ، محصنا من الامتيازات المسببة للغيرة والأحقاد؛ لكن على السلطة الرسمية ،أن تبتعد عنه ، إلا فيما يصلح للوطن ، لتتركه يعمل وفق قناعاته وأسلوبه في التدبير . إن تصرفت بهذه الكيفية فسيعتبر التغيير في حزب الاستقلال ، بداية طبيعية لعقلنة المشهد السياسي في المغرب.
باختصار، تتوفر في نزار بركة كثير من المواصفات المطلوبة في قائد سياسي كما يتمناها العهد الجديد وردت صراحة وبقوة في خطاب العاهل المغربي الأخير بمناسبة ذكرى ارتقائه الملك.
أخيرا ، ضمن المؤهلات العلمية للأمين العام الجديد ، حصوله على دبلوم في" المقايسة الاقتصادية " سيجعله يقيس خطواته ، مرات ومرات ، قبل أن يواصل السير إلى الإمام . فما الحزب في النهاية إلا مقاولة نافعة للبلاد والعباد .يكفيه أنه أعاد وديعة جده "علال الفاسي" إلى الأصل الطبيعي، ريثما تنهض زعامة جديدة .