الطعام للجسد كالعقيدة للروح والفن للوجدان، نقرأ في "ديوان المائدة"، آخر مؤلفات سعد سرحان، الكاتب المغربي الذي صدرت له دواوين شعرية وكتابات نثرية تؤكد تميّزه وقيمته الإبداعية. "ديوان المائدة" ليس ديوان شعر، بل مجموعة نصوص نثرية، فيها كثير من عذوبة الكلام الممزوجة بنكهة الطعام.
كسكس مغربي |
إيلاف من الرباط: من يعرف سرحان، الإنسان والمبدع، لا يمكن إلا أن ينتظر منه عملًا باذخًا، وذلك سيرًا على عادة هذا الكاتب القادم من حقل الرياضيات، في تقديم إبداعات مميزة، انطلقت مع "حصاد الجذور" (1994)، لتتواصل مع "شكرًا لأربعاء قديم" (1999)، و"نكاية بحطاب ما" (2004)، و"ص. ب 1492" (2006)، و"مراكش: أسرار معلنة" (2008)، بالاشتراك مع الشاعر والقاص المغربي ياسين عدنان، و"أكثر من شمال أقل من بوصلة" (2013).
الطريدة الأولى
لولا الطعام وما يضخه في أصلابها من ماء، ما كان للبشرية أن تستمر وتتكاثر وتزداد نضارة، يكتب سرحان؛ فبالطعام ولأجله "ظل الإنسان على قيد الوجود منذ الطريدة الأولى حتى آخر ما تفتقت عنه الصناعات الغذائية من تعليب وتلفيف وتبريد... لذلك ظل في صلب اهتمام كل نشاط أو إبداع بشري".
يرى سرحان أن الطعام هو حجر الزاوية في صرح الحضارة البشرية: "البشرية التي ما كان لها أن تستمر وتتكاثر وتزداد نضارة... لولا الطعام وما يضخه في أصلابها من ماء".
تاريخ الطعام
للطعام تاريخ، يقول سرحان، وتاريخ الطعام هو تاريخ الصيد والزراعة وتربية المواشي، لذلك فإن الأرض، بتضاريسها المختلفة، كانت المسرح الذي شهد فصوله. ولعل ذلك ما يفسر، حسب سرحان، الشبه الكبير بين خيرات الأرض وبين الأرحام التي تخلَّقت فيها. ففي اليابسة، تجد الأغصان والأشواك والأحجار ما يقابلها عند الأيائل والقنافذ والثمار. وفي البحر، لن نحتاج كثيرًا من الخيال لنرى في الأرخبيل البعيد، مثلًا، قطيعًا من حوت العنبر.
تلال وكثبان
طاجين مغربي |
في الأسواق الشعبية، يكتب سرحان، "تُعرض الخضر على شكل تلال، والقطاني والحبوب على شكل كثبان، واليقطين على شكل جبال، واللحوم والفواكه على شكل أكوام... فإذا هي أسواق ذات تضاريس تتردد فيها مواويل الباعة، إذ يعلنون عن بضائعهم، ويتخللها القصب والدُّوم في سلال وقفف الزبائن. وفي البيوت العتيقة التي كانت تخصص غرفة للمؤونة، يتم تخزين الطعام في الخوابي والدّنان والأوطاب وأكياس الخيش وهلم جِرارًا... وهي المواعين المصنوعة من الجلد أو القصب أو الطين، ولا يفوقها شبها بالتضاريس سوى الأثافي والحطب".
و"حين يصل الطعام إلى المائدة، يقول سرحان، بعد رحلته الشاقة من رمضاء الطبيعة إلى نار المطبخ، يكون ولاؤه للتضاريس قد اكتمل تمامًا. ولنا فقط أن نتأمل قصعة الكسكس لنرى جبلًا بركانيًا مكلل القمة مبلول السفح".
تضاريس الكسكس
يرى سرحان أن "ليس للكسكس ملامح المدينة، فهو سابق على المدن. وليست له قسمات السهل، بدليل تضاريسه الوعرة. إنه سليل الجبال، من أخمص القصعة (الصحن الكبير الذي يوضع فيه) حتى لحم الأعالي.
فمن طينها المَفْخور جُبِلَتْ مواعينه، ومن غلالها ومواشيها تخلّق طَبَقًا بسفح بَليلٍ وقمة بركانية تنفث البخار الحار درءًا لقرّ الثلوج. لذلك، فهو شامخ شموخها وراسخ رسوخها، وما نزوله منها إلى السهول والحواضر إلا كنزول الابن مع أهله بعد تبدّل الأحوال بحثًا عن فسحة عيش أوسع من الفجاج.
هكذا تغيرت صفاته، وتعددت وصفاته، بحسب الأرض التي يضرب فيها، وما تنتج من خيرات. ويُخيّل إليّ أيضًا أن الإنسان القديم، وقد انتقل للتو من الصيد إلى الزراعة، كان يقيم احتفالًا كبيرًا لصنيعه، فيحتفي بمحاصيله كلها، حبوبًا وخضرًا ولحومًا... فإذا هي كرنفال غذائي، لا أحد يعرف مَنْ أطلق عليه اسم الكسكس".
ليس الكسكس طعامًا، يكتب سرحان، "إنه الطعام. فتركيبته شبه الكاملة تجعل منه طعام الأطعمة، وهو بذلك المعادل الغذائي لكتاب الكتب عند بورخيس. فحين تقرفص القصعة على الأرض أو وسط المائدة تكون مكتفية بذاتها، فلا سلَطات حولها ولا مُقبِّلات. فكما إن حضور الماء يرفع التيمّم، فإن حضور الكسكس يرفع ما عداه. أما تناوله باليد المجردة، فلا بد أنها عادة جاء بها من الماضي السحيق لانعدام الملاعق أو نزلت معه من الجبال لحاجة الأطراف الباردة إلى سخونة أكيدة".
ليس الكسكس طعامًا، يكتب سرحان، "إنه الطعام (بتسكين الطاء) كما تنطقه العامة في غير منطقة من المغرب. وإذا كان الكسكس طعامًا جامعًا تقريبًا، فإنه جماعيٌّ تمامًا. ذلك أن قصعته لا ترضى بأقل من حلقة عائلية تُغذّي دفئها من حرارته. فتجد هذا يناول مما يليه ذاك، وتلك تغدق على هذه، والكبير يُلقِّم الصغير... في درس عن ثقافة التشارك لا أوضح منه خارج حصة الكسكس".
"ديوان المائدة" للكاتب المغربي سعد سرحان |
يشير سرحان إلى أن الكسكس يقدم يوم الجمعة مأدبةً، وفي العرس وليمةً، وفي المأتم وضيمةً، وحوله تنعقد حلقات الذكر، وأنه "يبارك ويعزّي ويُحسن ويُسبِّح مفصحًا، هكذا، عن مكارم الأخلاق وعمق الورع. وكما إنه ليس طعامًا، بل الطعام، فهو ليس معروفًا فقط، بل المعروف الذي لا يُؤْمَر به، وإنما يُسدى لكل ذي مسغبة.
وكأيِّ جدٍّ طاعنٍ في السن، فإن للكسكس أبناءً وأحفادًا وأسباطًا يحملون الكثير من ملامحه. ولنا فقط أن نتملّى في السميدة والبَلْبولَة والعَصيدَة والصّيكوكْ والبرْكوكْش والدشيشة... لنرى كيف تفرّقت خريطته الجينية عشوائيًا على نسله... إنه مفرد بصيغة الجمع.
الفضل في ذلك يعود إلى النساء اللواتي برعن وأبدعن في جنسه بما توافر لهن من خيرات الأرض. فلأصابعهن أسرار البلاغة والبيان التي تجعل من الكسكس سحرًا، ولها لذّتها التي تصيبه فتعرّض آكله لقضم أصابعه من فرطها. فسلام عليهن، على النساء وهنَّ يَفْتِلْنه، وهن يُبَخِّرنه، وهن يطبخن لحمه وخضره، وهن يسقينه، وسلام عليهن إذ يُقدِّمنه طَبَقًا شهيًّا.
إنه جمع بصيغة المفرد، فهو الكسكس باللحم والخضر، والكسكس المدفون، والكسكس المسقوف، والكسكس برأس الغنم، والكسكس بذيل البقر، والكسكس بالفول الأخضر، والكسكس بالقرْع الأحمر، والكسكس بالحمّص والزبيب، والكسكس بالقرفة والحليب... وكلما ابتعد عن المراكز والحواضر، استفحلت لذّته، وكأنه لا يكون رائقًا إلا قرب ربوعه الأولى، حيث الحقل أسفل الحاكورة والساقية تنحدر إليهما معًا من مرتفعات الثغاء".
هندسة الطعام
يرى سرحان أن التضاريس بدأت تتراجع لفائدة الهندسة، حيث "أصبحت للفلاحة والصيد البحري وزارة وصية تقوم بشؤونهما من تشريع قوانين وإصدار رخص وإنشاء معاهد ومراكز بحوث، وظهر خبراء الفلاحة ومهندسو الزراعة والبياطرة، وانتشرت الجرارات وآلات الحصاد، وحلت الأسمدة الكيميائية محل الروث، وبدأت البيادر تختفي بعدما صار التبن يُحفظ على شكل مكعبات.
هذا الرغد طال الزرع والضرع والشجر. فظهرت الزراعة المغطاة، وباتت الحظائر غير الحظائر، وانتشرت فواكه لم تكن في البستان. وقد لا ننتظر طويلًا قبل أن نستقدم من اليابان زراعة السطوح والبطيخ المكعب. أما بخصوص الصيد البحري فيكفي أن نلاحظ كيف أصبحت الصنارة على الشاطئ مجرد علامة استفهام حول ما يحدث في أعالي البحار.
أما في الأسواق الممتازة، فالهندسة سيدة المكان، بدءًا من العربات المدفوعة حتى الأكياس البلاستيكية المستطيلة، مرورًا بالأروقة والرفوف، حيث تعرض السلع على شكل مجسمات اعتيادية، وحيث لا وجود للباعة ومواويلهم. فالسلع تقدم نفسها بالأرقام من سعة ووزن ومدة صلاحية وسعر طبعًا. أما الإعلانات فهي صامتة تمامًا، وتتكفل بها لوحات مكتوبة وأخرى ينتابها الضوء. وما إن تصل هذه البضائع إلى البيت، حتى تجد في انتظارها خزانة المطبخ والثلاجة والمُجَمِّد... وهي أجهزة ذات رفوف وخانات صممت خصيصًا لها. وقبل الشروع في الطبخ لا بد من مراجعة هذا الكتاب أو ذاك، حيث تقدم الوصفات بالغرام والملعقة والكأس والمكعب... إن كانت ربات البيوت قديمًا يعتمدن على ذاكراتهن، ويسمحن لأكفهن بتقدير المقادير، فإذا لأطباقهن لذة تؤكل على إثرها الأصابع".
الكاتب المغربي سعد سرحان |
رحلة الطعام
حين يصل الطعام إلى المائدة، بعد رحلته الشيقة من السوق الممتازة إلى الميكرو أوند (الميكروويف)، يقول سرحان، "يكون إخلاصه للهندسة كأوضح ما يكون الإخلاص. ولنا فقط أن نتأمل البيتزا والغراتان وأضرابهما".
أكلة شهية أخرى من المطبخ المغربي |
يشدد سرحان على أن "رحلة الطعام من التضاريس إلى الهندسة لا تزال مستمرة. ويقينًا أنها لن تنتهي أبدًا، إذ أيُّ طباخ هذا الذي يستطيع أن يُهَنْدِس اللحم بالخرشوف (الخريف أو الأرضي شوكي)، وهو طبقٌ طاعنٌ في التضاريس؟".