: آخر تحديث

فيروس كورونا وقبلات الحياة والموت على أبواب المشفى في تورنتو-كندا

73
82
77

الخوف من الفايروس الجديد كورونا يحاصر العالم وأنا. أمام مدخل المشفى أرى رجلا وامرأة يقبلان بعضهما بحماس وشهية وعلى مهل، ثم ينصرف كل منهما إلى طريق. أمر بهما على عجل، ابتسم وادخل المشفى للعمل كمترجمة (عربي –انكليزي) في دوان تاون تورنتو التي تعج بالبشر من كل المقاييس والألوان والأعراق. رغم لسعات البرد والعاصفة الثلجية علي أن اذهب إلى العمل. ألعن البرد القارس، وأرفع القبعة عن رأسي والشال الصوفي المخطط الذي يخنق رقبتي، كي أمنع دخول البرد الى صدري وأكتافي التي لا تتحمل البرد. أخلع القفازات، أعقم يدي من العلبة المشدودة إلى الجدار في كل مدخل ومنعطف في المشفى. أبحث عن الجناح الذي سأعمل فيه اليوم. أخلع المعطف الثقيل ، أفكر في الروائح التي في مثل هذه الامكنة النظيفة على الدوام. انظر إلى الوجوه التي تتألم بصمت، والى الوجوه الخالية من التعبير. يدخلون الى عيادات ويخرجون منها. يعضهم يأتي لوحده، وبعضهم برفقة آخرين. إنه مكان لا يأتي إليه الفرد إلا لحاجة قصوى. إنه مختبر الألم والشفاء والمعالجة والخوف من نتائج التحاليل. الطب تقدم لاشك ، والفيروسات تزداد تقدما في تعقيدها وشراستها والرعب الذي تبعثه في هذا الكائن البشري الضعيف أمام مخاطرها. اسأل في سري: ماذا يريد الله من هذه المعادلة؟! أليس هو على كل شيئ قدير؟ لماذا كل هذا؟!

الإصابات في كندا وتورنتو:

لدينا الآن أكثر من 10 اصابات بفيروس كورونا في تورنتو. أنامتوجسة مثل الجميع. وحذرة من طبيعة عملي الذي يقتضي احياناالتواجد في المستشفيات للترجمة الفورية. كنت أعمل في المشفىفي قسم السرطان ثم طلب مني فجأة وعلى وجه السرعة أن أنتقلإلى قسم آخر لم يكن في جدول عملي لذلك النهار. ذهبت الىالقسم المعني، وجدت فريق العمل يلبسون الأقنعة والقفازات والثوبالخاص بالمرضى. طلبوا مني أن البس مثلهم قبل أن ندخل إلىغرفة المريض. وجدت نفسي هناك. سألت الممرضة التي مع الفريق: ما الأمر؟ ولماذا هذا الحذر؟!

قالت: يعتقدون أن هناك فيروس... سنقوم بجولة ونتكلم مع الأهلبحضور المترجمة. انكمشت وفي داخلي الحذر والخوف وتابعتالعمل معهم في غرفة المريض لمدة تقل عن نصف ساعة. لاحظت أنالطبيبة لم تضع قناعا على فمها. كانت تلبس القفازات فقط. انتهتالزيارة. خلعنا كل القفازات والاقنعة ووضعناها في حاوية. وانطلقتالى الحمام الذي في نهاية الجناح، وغسلت يدي بشدة. ثم مشيتفي طريقي إلى العمل للترجمة في المحكمة. كان لا بد أن أتوقف لشراء الشاي. عطشتُ من البرد والرهبة. 

المترجمة والتعامل مع الآخر في ميدان العمل:

أثناء الترجمة، قاطعني والد المريض مرات كثيرة قبل أن أنهي الجملة التي أترجمها. بلطف قلت له: "حين تقاطعني، أنسى كل ما قالته الطبيبة-رجاء" أجاب: " أنا أفهم انكليزي كويس، أريدك أن تترجمي لهم ما أقوله أنا- ربنا يطول في عمرك ويخلي اولادهم واولادك ويحفظهم من كل شر..." ...قمت بالترجمة وانتهى النهار على خير. رغم كل شيء ابتسم الأب وضحك عدة مرات وهو يعقب على ما جرى معهم البارحة.

كان رأسي مليئا بالاسئلة حول جدوى الحياة ومعنى القيمة الانسانية. سألت نفسي: ما الذي يجب أن أقوم به قبل أن أموت. من هو الشخص الذي أو الذين أحب أن أحتضنهم قبل الغياب الأخير!. شعرت باالغربة لأن القلوب التي كنت أحبها صارت موصودة بأقفال الكراهية والحقد والغيرة. ولكن ما يزال الكثير في قلبي للعالم ولنفسي. لا يهم سوى اللحظة-الان، والتي يجب أن أعيشها بكل ما أستطيع من نهم حذر. ولم لا نفعل، هذه حياتنا، وكيف نعيشونتعايش الان في اللحظة مهم جدا. لنضع جانبا فايروسات الغيرة والأنانية والعداء ونتنفس هذا الهواء المشترك الذي يهب علينا ولا يفرق بين ذكر وأنثى، بين قديس وعربيد، بين غني وفقير. وجكراً بالحريرات، قمت بشراء وجبة غداء دسمة وأكلتها بمتعة في المول الكبير بعد أن انتهيت من العمل. 

مت فارغا. Die Empty.

تذكرت عنوان كتاب قرأته حديثا "مُت فارغاً" محتواه يدور حول: أن يتحدى الفرد طاقاته الكامنة ويعيشها ويطلقها وهو على قيد الحياة. وحين يذهب إلى هناك، الأفضل أن يذهب فارغاً من الطموح ومن الأحلام المعلقة. 

ما الذي يجب علي عمله الآن؟ هناك الكثير مما يجب تفريغه على الورق وفي الشارع والبيت. لا يشغلني اليوم إلا أفكاري بالكتابةعني وعن المرأة العاملة والمرأة المتطفلة على قضايا الحرياتالشخصية والمجتمعية. لا شيئ يهم أكثر من الكتابة عن هذه الحياةقبل الموت. الكتابة عن امرأة مثلي وعن ونساء يعملن ليل نهار ولا يتاجرن بأجسادهن ومواهبهن. لا يتاجرن بالكلمة والمواقف. يعملن بكرامة وفي أقسى الظروف كي تبقى الحياة ممكنة وأفضل حتى وان كان الموت يتبع البشرية في كل خطوة. العمل بالنسبة لي كرامة وضرورة حيوية.

عزيزي الله، أنا جاكلين، ماذا بعد؟! الطقس بارد جدا هنا الآن. عادة نحن في كندا نتحدث مع الغرباء عن أحوال الطقس حين نلتقي في المصعد أو على باب مكتب. ندير أحاديث قصيرة غير شخصية. نرسم ابتسامات حارة أو باردة. نواظب المسيرفيما العالميستعر خوفا وقلقا وأمراضا ومعارك ومؤامرات صغيرة وكبيرة،شخصية، اجتماعية ودولية. في هذه الأيام نمشي بحذر ونسأل عن ضرورة ارتداء القناعل قبل أن تحصد كل هذه الأرواح فمازاللديهم ما يقدمونه للبشرية!

29 فبراير 2020

جاكلين سلام: شاعرة وكاتبة ومترجمة سورية-كندية


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في