: آخر تحديث

اليابان من وجهة نظر عربية: المعارضة المتطرفة وثقافة الاعتذار التناغمية

85
90
77
مواضيع ذات صلة

ثقافة الاعتذار التناغمية ثقافة مهمة في اليابان وقد تفهمتها وعايشتها حينما كنت سفيرا لمملكة البحرين. فسنويا يتقدم بعض الطلبة البحرينيين للدراسة في الجامعات اليابانية، كما يتقدمون للدراسة في الجامعات الأوروبية والأمريكية، وكثيرا من الأحيان يقبل هؤلاء الطلبة في الجامعات اليابانية وفي نفس الوقت يحصلوا على قبول من بعض الجامعات الأوروبية أو الامريكية، ليفضل بعضهم الدراسة في جامعات الغرب، وهنا تأتي قضية ثقافة الاعتذار. طبعا حينما تقبل أي جامعة يابانية طالب من مملكة البحرين تتوقع الإدارة بقبول هذا الطالب للدخول لهذه الجامعة، وخاصة بأن هناك تواصل بين سفارة مملكة البحرين مع إدارة الجامعة لقبول الطالب بالكلية التي يختارها، وإذا اعتذر الطالب قبول عرض الجامعة تفرض الثقافة اليابانية على السفير أن يرتب موعدا مع رئيس الجامعة، وليذهب مع وفد من السفارة، ومع هدية صغيرة، وهي عبارة عن علبة من قطع حلويات يابانية لا يزيد قيمتها عن الثلاثين دولارا، ليقدم الشكر لقبول الجامعة للطالب البحريني، مع الاعتذار للجامعة لعدم قبول الطالب هذه الفرصة، وبالإضافة استمرار التعاون بين إدارة الجامعة والسفارة. والجميل في الثقافة اليابانية بأنه بعد تقديم واجب الاعتذار ينتهي كل عتب، ولتصبح الصفحة بيضاء كاملة. وثقافة الاعتذار هذه جزءا من عقيدة الطهارة اليابانية، والتي تتعلق بطهارة الجسم والعقل والنفس، والتي يعتبرها المواطن الياباني جزءا من عقيدته الشنتوية، فالاستحمام يوميا قبل الدخول لدفء السرير مساءا من أهم واجبات العائلة، كما أن محافظة الطالب على نظافة الفصل والمدرسة جزءا مهما من واجبات الطالب، والتطهر بغسل اليدين ومضمضة الفم من أهم الواجبات قبل دخول المعبد. كما أن المواطن الياباني يكون مسئول مسئولية شخصية عن زبالته، فلا توجد مواقع لزبالة في الشوارع والأسواق الا في مواقع قليلة محددة كمحطات القطارات والباصات، لذلك على المواطن الياباني إبقاء زبالته في حقيبته اليدوية حتى يصل لمحطة القطار ويلقيها في مواقع الزبالة المحددة للجرائد والعلب البلاستكية وعلب الالمونيوم، لتجد مدينة طوكيو من أجمل وأنظف عواصم العالم، وفي نفس الوقت يعاد استخدام جميع مواد الزبالة في انتاج الطاقة أو في صناعة البلاستيك والالمونيوم وغيرها. وحتى وجبة الطعام، من واجب المواطن الياباني ان يطلب كمية قليلة من الطعام، ولأسباب عدة، منها لكي يقلل من كلفة صرف الدولة على للطعام، ولكي لا يفرط في الطعام حتى لا يصاب بالبدانة، والتي تؤدي لزيادة الكوليسترول وداء السكري وارتفاع الضغط وامراض القلب والسرطان، وما يرافقها من كلفة هائلة على الرعاية الطبية وارهاق ميزانية الدولة، حيث من المتوقع بأن تنهكك خدمات الرعاية الصحية ربع ميزانية الولايات المتحدة مع نهاية هذا القرن. كما من واجبات المواطن الياباني أن يكون صحنه خاليا ونظيفا بعد الاكل، وبذلك يقلل كلفة الطعام وخدمات الزبالة على الدولة. بل تمتد عقيدة الطهارة اليابانية لتطهير النفس من الذنوب، ومن اهم سبل تطهير النفس هي الانتحار، فحينما يقصر الطالب في دراسته ينتحر ليطهر نفسه من مرض اللامسئولية امام عائلته ومواطني بلده، وقد ينتحر المدرس حينما يتعرض للشك بأنه سرب أسئلة الامتحانات للطلبة، او ينتحر المهندس حينما تحوم حوله الشكوك بتخفيض كمية الحديد في الخرسانات، وبل ينتحر السياسي الوزير حينما يشك في نزاهته او يقصر في عمله.

والجدير بالذكر بأن عدم استيعاب ثقافة الاعتذار اليابانية قد تؤدي لخلافات دبلوماسية عميقة، ومثل ذلك الخلاف العميق بين الصين واليابان حول معضلة زيارة معبد او ضريح اليسكوني من قبل رئيس وأعضاء الحكومة اليابانية سنويا، وهو المكان الذي به رفات بعض قيادات الجيش الياباني بعد الحرب العالمية الثانية. ففي عقيدة الشنتو اليابانية الموت وارواح الموتى مقدسة لأنها ابدية، نعم جسم الانسان يموت، ولكن الأرواح ابدية تنتقل من جسم كائن حي الى آخر، ويعتمد هذا الانتقال على ما عملت يد هذا الانسان في حياته، فاذا كانت اعماله الدنيوية فاضلة فتنتقل روحة للسماء لخلق انسان أفضل، اما إذا كانت اعماله الدنيوية سيئة، فتنقل روحة الى كائنات متواضعة، بمعنى كلما قام مواطنو المجتمع بأعمال فاضلة، كلما زادت الأرواح المجتمعية الفاضلة بعد موتهم، لتنتج منها اجيالا مستقبلية أكثر كفاءة وخلقا وانتاجية. فمثلا، اعتذرت اليابان للشعب الصيني عن جميع أخطاء الحرب ضدها، ولكن حتى اليوم لم تتفهم معنى هذا الاعتذار القيادة الصينية، لذلك كل مرة يزور زعماء اليابان معبد اليسكوني، يعترض زعماء الصين بشدة، بينما في ثقافة الاعتذار اليابانية حينما تعتذر (أدبيا أو ماديا) دولة عن خطاء ارتكب تاريخيا، ينتهي الموضوع من الجانب الياباني، ولا يكرر ذكره، لأن ثقافة الاعتذار اليابانية تؤمن بأن من الممكن أن يخطأ البشر، والاعتذار الحقيقي الصادق يطهر هذا الخطأ.

وهنا ليسمح لي عزيزي القارئ للرجوع لموضوع الاعتذار في بلدي مملكة البحرين، وقبل أن أبدأ الحوار في هذا الموضوع أرجو أن نفرق في حوارنا بين مفهوم المعارضة الشرعية والمعارضة المتطرفة والغير قانونية، فمع أن المعارضة هي وسيلة سياسية شرعية في المجتمعات الديمقراطية، حيث تلعب دورا مهما في تحقيق الإصلاحات المرجوة، بينما المعارضة المتطرفة تفقد هذه الشرعية، حينما ترفض دستور البلاد وتعمل بالعنف خلافا لتشريعاته وقوانينه، كما يجب أن يكون وسائل عمل المعارضة سلمية، لكي يكون عملها شرعي فيحميها دستور البلاد وقوانينه. وهذا لا يعني بأن الدستور والقوانين هي مثالية ومتكاملة، فدساتير جميع بلدان العالم منقوصة، ولكن تعمل المعارضة الحكيمة بطريقة شرعية وسلمية وتناغمية يوميا، لكي تطور هذه التشريعات مع تطور المجتمع، ومع التطورات التكنولوجية المرافقة، حيث في المستقبل القريب سيكون للذكاء الآلي دور مهم في تنقية التشريعات والقوانين والتأكد من تطبيقها، كما ان كثير من الدول الاوربية والولايات الامريكية وحتى اليابان، هناك خلاف حول أمور تشريعية كثيرة، فمثلا نسب التمثيل في المناطق المختلفة في البلاد، ولكن جميع هذه الخلافات تعالج فقط من خلال الدستور والقوانين المرافقة، وليس من خلال العنف، فمتى دخل العنف في الوسط تحولت المعارضة إلى معارضة غير شرعية قانونيا. لذلك، حينما نناقش المعارضة المتطرفة فنعني بها بالمعارضة التي تستخدم الوسائل الغير قانونية وسيلة لكي تعبر عن معارضتها. وقد عانت مملكة البحرين كثيرا من الخلط بين مفهوم المعارضة الشرعية والمعارضة المتطرفة، وخاصة بعد ما سمي بثورات الربيع العربي، مما أدى ذلك لمعاناة اجتماعية واقتصادية كبيرة، حيث أن التطرف والعنف يؤثر على الاقتصاد نتيجة خلق الاضطرابات والفوضى في البلاد، لتؤدي لزيادة الصرف لتحقيق الأمن والسلم والتناغم المجتمعي، كما يؤدي ذلك لانخفاض الاستثمارات الأجنبية، بل وتتأثر جميع خدمات ووظائف الدولة. وقد تردد مؤخرا عبر وسائل الاتصال الاجتماعي شكوى لسجين سياسي، من هذه المعارضة محكوم عليه بمحاولة انقلابية ثيوقراطية في البلاد، بالتعاون مع دولة معادية، سأتجنب ذكر اسمه، لأننا نناقش هنا الأفكار لا الأشخاص، لم تسمح إدارة السجن لأهله بزيارته، ولا إدخال كتب ومجلات لزنزانته، كما لم تسمح له بمراجعة الطبيب، وقد راجعت الأمانة العامة للتظلمات في مملكة البحرين الموضوع وأعلنت في الصحافة بأنها: " حفظت تلك التحقيقات بعد أن تبين بأن مركز الإصلاح والتأهيل بالسجن قام بجميع الإجراءات والقواعد المعمول بها قانونيا وطبقا للمعايير الدولية. وأشارت الأمانة العامة للتظلمات إلى أن النزيل رفض حضور مواعيده الطبية الخارجية، بسبب إصراره على عدم تقييد يديه عند نقله إلى خارج السجن، وهو ما يتعارض مع لوائح مركز إصلاح وتأهيل النزلاء، كما أن النزيل يرفض التفتيش خلال الزيارات العائلية، بينما أفادت إدارة المركز بأن هذه العملية ضرورية لضمان سلامة النزلاء، وأيضا لمكافحة محاولات تهريب أي مواد ممنوعة. كما قام النزيل في فترات سابقة بالاحتفاظ بعدد كبير من الكتب داخل غرفته وقد اطلعت أمانة التظلمات على لائحة مفصلة بأسماء هذه الكتب وهو الأمر الذي يعد مخالفا للوائح التي تحكم المركز، والتي تقرر أن النزيل من حقه الحصول على كتابين في الوقت نفسه، ويستثنى من ذلك القرآن الكريم والكتب السماوية الأخرى."

وقد لفت تكرار مثل هذه المشاغبات، قبل انتخابات مجلس النيابي في شهر نوفمبر القادم، نظر سعادة رئيس مجلس النواب البحريني المنتخب، مما أدى لتحذير المواطنين من محاولات احدى الدول الثيوقراطية المجاورة التدخل في الانتخابات النيابية القادمة، من خلال عملائها لخلق فوضى انتخابية، وليؤكد مرة أخرى بأنه لا مكان "لولاية الفقيه" ولا لانقلابي "باقون حتى اسقاط النظام" في برلمان مملكة البحرين. ويبقى السؤال لهذه المعارضة: هل حان الوقت للاستفادة من ثقافة الاعتذار اليابانية التناغمية، لكي تتحول هذه المعارضة لمعارضة شرعية،


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في فضاء الرأي