لطالما وقفتُ متأمّلًا في ذلك الحوار النبويّ العميق، الذي دار بين رسول الله ﷺ وأعرابيٍّ ثائرِ الرأس، جاء يسأل عن حدود الفرض، لا عن ذُرى المقامات. سأله عمّا أوجب الله عليه، فلمّا أُخبر، قال: "والله لا أزيد على هذا ولا أَنقُص"، معترفًا بعجزه عن الزيادة عليها، فكانت كلمة النبيّ الخالدة: «أفلح إن صدق».
ليست هذه شهادة عابرة، بل ميزانًا دقيقًا للفلاح، يُقيمه النبي ﷺ على أساس الصدق، لا على كثرة العمل، وعلى الالتزام الواعي، لا على المبالغة المتكلّفة.
الاعتراف بالحدود: بداية الحكمة لا نهايتها
في هذا الموقف تتجلّى حكمةٌ بالغة: أن يُدرك الإنسان حدوده، وأن يعترف بعجزه عن بلوغ الكمال، فيقف عند الواجب ملتزمًا به بإخلاص.
ذلك الأعرابيّ لم يطلب الترخيص في التقصير، ولم يُجادل في التكليف، بل سأل عن الحد الأدنى الذي يضمن له النجاة، وهو سؤال صادر عن فطرةٍ تعرف أن الله لا يكلّف نفسًا إلا وُسعها.
وقد قرّر القرآن هذا الأصل بوضوح:
﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ – سورة البقرة، آية 286
إنّ هذا الوعي بالحدود لا يُنقص من الإيمان، بل يحميه من الانكسار، ويصونه من النفاق العملي، الذي قد ينشأ عن تحميل النفس ما لا تطيق.
بين فرض العبد وتطوّع المحبّ
العبودية في الإسلام ليست نمطًا واحدًا، بل مساحاتٌ متعددة تتسع لاختلاف الناس وطاقاتهم.
فثمّة من يعبد الله من باب الالتزام الصارم بالفرائض، وثمّة من يفيض قلبه بمحبةٍ تدفعه إلى التطوّع والزيادة.
وكلا الطريقين مشروعان، ما دام الجامع بينهما هو الصدق.
وفي المقابل، تفتح النصوص الشرعية باب الرجاء واسعًا لمن قصّر أو أسرف ثم عاد، كما في قوله تعالى:
﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ﴾ – سورة الزمر، آية 53
فعِباد الله ليسوا صنفًا واحدًا، والعبودية لله تتّسع لهذين الصنفين:
-
عباد الفرائض الذين يلتزمون بالحدود ولا يتجاوزونها.
-
عباد التوبة الذين تجاوزوا الحدود ثم عادوا منها.
والجامع بينهما هو الصدق؛ صدقُ الأوّل في التزامه، وصدقُ الثاني في توبته.
الدين النصيحة: بين المبدأ وسوء الفهم
وفي هذا السياق، يحسن استحضار الحديث النبويّ الجامع الذي يضع إطارًا أخلاقيًا شاملًا للدين كلّه، حين قال رسول الله ﷺ: «الدين النصيحة»
قلنا: لمن يا رسول الله؟
قال: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم»
رواه مسلم – كتاب الإيمان، حديث رقم (55)
وكثيرًا ما يُساء فهم هذا الحديث العظيم، فيُظنّ أن النصيحة تعني التشدد على الآخرين، أو محاسبتهم على مراتب لم يبلغوها بعد، بينما حقيقتها تبدأ من صدق العبد مع ربّه ومع نفسه أوّلًا، ثم الدلالة على الطريق برفق، واحترام تفاوت المقامات.
ومقالنا هذا لا يقف خارج هذا الحديث، بل يتحرّك في قلبه؛ إذ يؤكّد أنّ النصيحة لا تعني تحميل الناس فوق طاقتهم، ولا مصادرة صدقهم بحجة نقص أعمالهم، بل تعني الدلالة على الطريق بلطف، واحترام التفاوت بين الناس.
العجز المعترف به: فضيلة إيمانية
إنّ الاعتراف بالعجز عن الكمال ليس نقصًا في الدين، بل كمال في الفهم. ولهذا كان النبي ﷺ يستعيذ بالله قائلًا:
«اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل» – رواه البخاري ومسلم
فالعبد حين يعترف بضعفه، يكون أقرب إلى الإخلاص، وأبعد عن الادّعاء. وقد أدرك الأعرابيّ هذه الحقيقة، فآثر السلامة في الفرائض، على مغامرة التطوّع التي قد تجرّه إلى التفريط أو الملل.
نحن من قوم: «أفلح إن صدق»
نعم، أنا من قومِ ذلك الأعرابيّ الصادق؛
أعترف بعجزي، وأتمسّك بأهداب الفرائض، وأصدق في عبوديتي لله تعالى، وأُدرك أنّ الفلاح ليس في كثرة الأعمال وحدها، بل في صدقها، وإتقانها، وموافقتها لمراد الله.
فلنكن نحن أيضًا من قوم ذلك الأعرابيّ الصادق، الذين يعرفون حدودهم، فيلتزمون بالفرائض، وينصحون غيرهم برفق، ولا يقنطون إذا زلّوا، ولا يقنطون غيرهم من رحمة الله، بل يعودون إليه تائبين منيبين.
﴿فَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفْسِهِ﴾ – سورة فاطر، آية 18
اللهم اجعلنا من الفالحين الصادقين، الذين يؤدّون فرائضك بصدق، وينصحون عبادك بحكمة، ويعرفون حدودهم فلا يتجاوزونها غرورًا، ولا يقفون دونها يأسًا.
آمين.

