يحب أهل الرّيف شرب الماء من رأس النبع كما يقولون، وفي ترجمة الشعر، اشرب أنت من رأس اللغة، وإذا قرأت قصائد مختارة من بوشكين مترجمة من الروسية إلى العربية مباشرة أنجزها الشاعر العراقي حسب الشيخ جعفر قبل نحو نصف قرن، بعدما أنهى دراسته في موسكو تعرف سرّ شغف الريفي بشرب الماء على طريقته البكرية تلك. نعم، في ترجمتك الشعر شيء من البكرية دائماً، وإلّا فإن المرء لن يرتوي مهما قرأ من الشعر.قول بوشكين من ترجمة حسب الشيخ جعفر: «في سهوب بيارابيا/ينتقل الغجر في ضجيج/هم اليوم يقضون ليلتهم على الشاطئ/في خيامهم المثقّبة/وإن مبيتهم لبهيجٌ كالحرية».* هذه ترجمة مائية أيضاً لبوشكين، أنجزتها د. حياة شرارة قبل نحو نصف قرن وجاءت في «ديوان الشعر الروسي»، وكانت د. حياة شرارة تشرب هي الأخرى من رأس النبع، يقول بوشكين: «إنني أتفتّح مع كل خريف/البرد الروسي مفيد لصحتي/الحب يخالجني مجدداً نحو الحياة المألوفة/يحتويني النعاس تارةً/ والطّوى تارة أخرى/وتجري الدماء في الفؤاد خفيفة هنية».* الشاعر محمد العامري، رسّام، ونحّات، وناقد فني احترافي، وناشر انتقائي، وفوق كل ذلك كله، يحب الحياة، ويتذوّقها كما يليق بفنان تعدّدي على هذا النحو المركب الذي يشبه عمل الكيميائي الشغوف بالعطر، وتركيبها من مزج القرفة بالعسل. مذاق لا يعرفه إلّا عشاق الحياة، تلك الحياة الخضراء التي نجدها في مجموعة العامري «عليه العشب». هنا محمد العامري كلما ضاقت عليه الأرض صار سحاباً. وهو على قدر قلبه يحب، وما كان يعرفه صار وهماً، ويستهويه دائماً أن يبحث عن الشعر في عرق الخيول، ويجلس تحت دالية تتصبب عنباً أو ماء عنب. إذا أردت أن تعرف حزن البشرية الطفولية في غناء العبيد، فاقرأ «مذكرات عبد أمريكي» لفريدريك دوجلاس، ولكن قبل ذلك ستعرف أن الثورات الإنسانية في تاريخ البشرية لا تحرر وحدها الإنسان من عبوديته. هناك شيء آخر يحرّر من العبودية: إنه القراءة.تحرّر العبد الأمريكي عندما تعلّم القراءة والكتابة. استطاع أن يركّب من أربعة أحرف كلمة رائعة نبيلة هي «حرّية».* كتاب «تاريخ البكاء» للباحث توم لوتز ليس فقط مجرد تاريخ طبيعي وثقافي لدموع الإنسان، بل فيه أيضاً بعض الوصفات العلاجية إن أمكن القول. هناك على سبيل المثال، علاج بالصراخ، وعلاج بالندم، وعلاج بالكلام، وفي الكتاب ما هو أوسع مدى قرائياً من تاريخ الدموع. مثلاً، العلاقة بين المسرح والدموع، العلاقة بين الكذب والدموع، الدموع والبشرة، الدموع والبصل، الجميل في هذا الكتاب دموع النساء، ودموع التماسيح.* بعدما تنهي قراءة «خارج المكان» لإدوارد سعيد قد يتبادر إليك أن البروفسور المقدسي الذي أخذته ثقافته الغربية والعربية معاً إلى خلخلة الغرب نفسه بأفكاره الحرّة حول مفهوم أو مصطلح الاستشراق، كان موسيقياً ضلَّ طريقه إلى الفكر والفلسفة، ولكن من قال إن الموسيقى في ذاتها ليست فكراً أو ليست فلسفة؟ وقبل وبعد هذا وذاك، الفلسفة علم ونظام، وهي علاج، كما هي شعر، ومثلها مثل العلوم العظمى لها تاريخ، ومن كل هذه المرجعيات التربوية والروحية كبُر المفكر الفيلسوف في ذات إدوارد سعيد من دون أن يضل أي طريق.
شعر ودموع وموسيقى
مواضيع ذات صلة