أعمال الشغب والعنف في آيرلندا الشمالية لا تبدو غريبة للمراقب والمتابع للأحداث في تلك البقعة الجغرافية الصغيرة من العالم. صِغرُ مساحة الإقليم لم يكن عائقاً يحول بينه وبين الاستحواذ على عناوين الأخبار في مختلف وسائل الإعلام طيلة سنوات طويلة، نتيجة حرارة الانقسام الطائفي بين سكانه من البروتستانت والكاثوليك، أو بمعنى أوضح وأصحّ، بين الموالين للبقاء في الاتحاد البريطاني والمطالبين بعودة الإقليم لآيرلندا.
اتفاق السلام في عام 1998 عمل على تهدئة الصراعات الطائفية قليلاً، بتحويلها إلى صراعات سياسية تخاض معاركها في البرلمان. إلا أن الشغب والعنف ظلا يظهران من حين لآخر. إذ فجأة تفيض الشوارع بالمتظاهرين، وتبدأ أعمال العنف، وتشتعل نيران الصدامات مع الشرطة، لأقلّ سبب.
ما يميّز أحداث الشغب والعنف في آيرلندا الشمالية بالماضي أنها كانت أحادية الطابع. بمعنى إما أن تكون بروتستانتية، أو كاثوليكية. الملاحظ في أحداث الشغب والعنف في الإقليم هذه الأيام أنّها، وعلى نحو غير معهود، جمعت أبناء الطائفتين معاً، وهي حالة غير مسبوقة. وتفسير ذلك أن العدو المستهدف فيها هم الغرباء من المهاجرين، الذين بدأوا يتوافدون على الاستيطان في الإقليم منذ توقيع اتفاق السلام في عام 1998، وتزايدت أعدادهم مؤخراً، خصوصاً من بلدان أوروبا الشرقية.
التقارير الإعلامية التي نقلت وتابعت تطورات الأحداث الأخيرة تتحدث عن اعتداء جنسي الطابع، من مراهقين رومانيين على صبيّة مراهقة في منطقة صغيرة بروتستانتية تسمى بوليمنيا. الحادثة يوم الاثنين الماضي، كهربت سريعاً الأجواء، وأدت إلى موجة غضب شعبي تميّزت بموجات اعتداء على مناطق المهاجرين وحرقها، واستدعتْ تدخل الشرطة. وما زالت الشوارع في حالة غليان. بل وانتشر الغضب الشعبي إلى مناطق أخرى، بروتستانتية وكاثوليكية.
وحدة الشارعين البروتستانتي والكاثوليكي في آيرلندا الشمالية سبق أن شاهدناها في شهر أغسطس (آب) من العام الماضي، في شوارع العاصمة الآيرلندية دبلن، في مظاهرات احتجاج اتسمت بالعنف ضد المهاجرين. في تلك الاحتجاجات كان المتظاهرون يحملون الأعلام البريطانية والآيرلندية جنباً إلى جنب. الأمر الذي يعيد إلى الأذهان مثل شعبي يقول: «أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وأخي وابن عمي على الغريب» أي على المهاجرين.
هل يعني ذلك أن الموقف المناوئ من تدفق المهاجرين نجح فيما فشل فيه السياسيون طيلة عقود من الزمن؟ أي بخلق شعور جمعي بوحدة وطنية مبعثها الخوف، تجاوز كل الجدران والحواجز الطائفية التاريخية، وجعل من الضرورة الوقوف معاً في جبهة واحدة للدفاع عن النفس ضد مهاجرين يحملون جنسيات مختلفة وينتمون إلى ثقافات وأعراق وديانات ولغات مختلفة.
أعمال العنف التي شهدتها بريطانيا في الصيف الماضي في شمال إنجلترا ضد المهاجرين تصنّف هي الأخرى تحت هذا البند. العامل المشترك بين كل أعمال العنف ضد المهاجرين في مختلف البلدان مبعثه وحافزه الخوف من خسران مواطني البلد المضيف وظائفهم. رأينا ذلك في حوادث شغب منذ سنوات في جنوب أفريقيا ضد مهاجرين من زيمبابوي. وتابعنا ما حدث للمهاجرين الأفارقة في بلدان عربية، ليبيا على سبيل المثال لا الحصر. وفي بلدان أوروبية عدة. وما يحدث في شوارع لوس أنجليس الأميركية من أحداث حالياً، ليس في حاجة إلى تذكير.
الملاحظ أن أغلب تلك الأعمال العنفية يقع ويبرز عادة في مناطق عمالية فقيرة، تتميز بارتفاع نسبة البطالة، وانخفاض في مستويات المعيشة. وهي مَن يستقطب في العادة منظمات وأحزاباً يمينية شعبوية متطرفة، تنشط فيها بفعالية، كونها بيئة مواتية لتجنيد كوادر جديدة، ونشر أهدافها.
حادث الاعتداء على المراهقة الآيرلندية، جاء ليعمل مفجّراً لقنبلة موقوتة في شمال آيرلندا، بسبب تأزم الوضعية السياسية في الإقليم، وتدهور الأوضاع الاقتصادية، وإحساس السكان بتجاهل الساسة لهم. وهذا لا ينفي حقيقة أن الأوضاع الاقتصادية في الإقليم، بسبب الدعم المالي الذي تقدمه الحكومة في لندن، تعدُّ مقبولة، حسب آراء الاقتصاديين، لدى المقارنة بمناطق عمالية فقيرة في شمال إنجلترا.
المعروف عن الآيرلنديين أنهم من أكثر الشعوب ترحيباً ورحمة بالمهاجرين أو بالغرباء، لكن هذه الحادثة أعادت بعضهم إلى العصبية القبلية، مبررين ذلك بسلوك أولئك الشباب الغرباء المنفلتين الذين لم يرعوا للضيافة والترحيب أيَّ معنى أو أيَّ احترام.