محمد ناصر العطوان
لو كنت جالساً عند جَدّك فسوف يقول لك: «يا بُني، تعلّم من الماضي»، أما «الحداثة» التي انفجرت في وجهنا اليوم فتقول لك: «يا معلم، ارم الماضي والتراث خلف ظهرك، وجيب واحد «أبلكيشن جديد!».
الحداثة ليست مجرد كلمة في كتاب فلسفة يقرأه ثلاثة أشخاص ويتنمر عليهم ثلاثمئة شخص، إنها «ماكينة هدم» ولكنها تبني، أو تبني من أجل أن تهدم، أو تهدم وتبني في الوقت نفسه، ولذلك فالحداثة تريد عمل «ريستارت» للكون كل 5 دقائق، وكأن الحداثة نسيت أن تضيف زر «حفظ التقدم» في الحياة!
تتسم الحداثة بارتكازها على جدلية ملتبسة تعتمد على الهدم والبناء والتحولات السريعة، والانقلابات المتكررة والتدمير الإبداعي المزمن للأشياء وللعلاقات والذوات والهويات بغية خلق بدائل جديدة دائماً، وتحقيق المواكبة لشيء غامض، يصعب تحديده أو وصفه، ففي جوهر هذه الإحساسات الحداثية عداء دائم للثبات والتمركز والرسوخ، ورغبة مستمرة بالتجريب والتغير والتنويع والتنقل، وتثوير للإمكانات والخيارات.
فالعلاقات الاجتماعية الحديثة قد أصبح لها «تاريخ صلاحية» مثل السلع الاستهلاكية، العلاقات الاستهلاكية أصبحت أكثر استهلاكية، فإذا «الآيفون 20» نزل السوق فـ«الآيفون 19» يدخل للمتحف، والأدب دخل مرحلة العدمية من أوسع أبوابه، وأصبح الأدباء يحبون الكباب أكثر من الأقلام، وأصبحت النساء تحب عيادات التجميل أكثر من البيوت، وأصبح الجميع عاشقاً للسفر والرحلة والبراند والترند والشماتة في مصائب الآخرين طالما أنها بعيدة عنه.
أما في الفنون، فحدّث ولا حرج، فاللوحة حتى الرسام لا يفهمها، وأصبحت الفنون مثل«حوارات الهايد بارك»: كل شخص يفهم ما يريده! فانتقلنا من رسم الطبيعة الميتة، إلى رسم «زبالة ميتة» تحت وسم «الاعتراض على الاستهلاك»!
تعلّمنا من الأكبر عمراً أن «الصدق فضيلة»، لكن تعلمنا من الحداثة أن«السوشال ميديا» فضيلة أكبر! والقيم الأخلاقية أصبحت «باكج متكاملة»: تستطيع أن تكون «منفتحاً» و«محافظاً» في الوقت ذاته، تماماً مثلما تلبس «حذاء رياضياً» فاقع الألوان مع «دشداشة»!
وأما الهوية، فيكفي «فيلتر سناب شات»: تستطيع تغيره كل 5 دقائق من أجل ألا ترهق نفسك في الإجابة عن سؤال: «من أنا ؟»!
من أجل كل ذلك عزيزي القارئ فأنت أمام مسارين، أما المسار الأول فهو مثل الوجبات السريعة، يُشبعك بسرعة، ولكن آثاره مدمرة ولا تستطيع الاستغناء عنه... فـ«اضمحل وتبدد» يا صديقي، وتذكر أنك لو وقفت في المسار فسوف يضعونك في «رف المنتجات التي لا تعمل بالنت»، والدنيا ستسمر... من غيرك.
أما المسار الثاني فهو اعتقادك قولاً وممارسة... أن كل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر.