: آخر تحديث

لبنان: آخر العلاج "الحرد"

3
3
2

تدخل المجتمع الدولي، بشكل مباشر معلن، لجرّ الطبقة السياسية في لبنان إلى وقف الشغور الرئاسي، فانتخب العماد جوزف عون رئيساً. بالمقابل، عزفت عواصم القرار، ولا سيما المؤثرة منها، عن ممارسة أي ضغوط لاختيار رئيس للحكومة، فأنتجت المشاورات النيابة اختيار نواف سلام لرئاسة الحكومة. وفي تلك المفارقة تظهر جيداً قوة العامل الخارجي، ليس حين يدلي بدلو حازم وحسب، بل أيضاً حين يترك للبنانيين تدبّر مخارج لمأزقهم. ومهما كانت حوافز التدخل الخارجي من عدمه، وحيثيات الحراك البرلماني الداخلي، فإن الأمر يعكس موازين قوى دولية وإقليمية ومحلية تغيّرت، وبات حساب الخسائر والأرباح يُنتج ذلك التحوّل الجذري في هوية وبرامج ساكن قصر بعبدا وساكن السرايا. ولو لم نكن نعرف ظروف الحكاية، لخال لنا أن غرفة واحدة دبّرت وصول عون إلى الرئاسة ووصول سلام إلى رئاسة الحكومة.يكفي التمعن في قراءة "خطاب القسم" وخطاب سلام عقب لقاء رئيس الجمهورية، لاستنتاج مدى التناغم والتلاقي في عزم الرجلين على إعادة البلد إلى سكته "العادية" بعد عقود، منذ اتفاق الطائف عام 1989، من الطبيعة "الشاذة" التي أُديرت بها العملية السياسية في البلد. ولئن تقادمت وصاية دمشق وترنّح نفوذ طهران، فإن إنتاج سياسة Made in Lebanon لم تدخل قاموس اللبنانيين وقد يصعب تصريف بضائعها. وفق تلك الاستفاقة على ما هو من عاديات الأمور، يبدو الاستثناء معانداً مكابراً غير قابل بالإيمان بعلم الحساب وحركة التاريخ. وجدير هنا تأمل حالة الحرد والذهول التي قابل بها "الثنائي الشيعي" واقع انتخابات (على شكل مشاورات) "ارتكبها" مجلس النواب اللبناني، بشكل ديموقراطي، ينصّ عليه الدستور، لحمل شخصية جديدة، خارج اتفاق مزعوم، ليشكّل حكومة العهد الجديد شريكاً كاملاً لرئيس الجمهورية وخطاب قسمه. وحين تخرج من أدخنة المحنة عبارة "مش هيك اتفقنا"، ففي ذلك عيب أن يكون هناك اتفاق قد دُبّر خلف الكواليس وداخل الغرف المغلقة، كالعادة في زمن الوصايتين، من وراء ظهر اللبنانيين وبرلمانهم. والعيب الأكبر أن تتمّ المجاهرة والفخر من دون خجل بالعيب بصفته حقّاً تمّ انتهاكه. وفيما من أصول العمل السياسي التمتع بالرشاقة والبراغماتية لمواجهة التحديات والتعامل مع المستجدات غير المحسوبة، فإن أقسى أعراض الضعف والتخبط هو "الحرد".والأدهى في أمر الاتفاق المزعوم أنه استند ببلادةٍ إلى مسلّمة خضوع برلمان البلد آلياً لما قيل إنه حيك سرّاً مع أطراف وجهات صفقة لانتخاب عون رئيساً. وبدا ممّا سرّبه "الحرد" من بنود للصفقة الجديدة توضيب لخطة طريق تفرض اسماً بعينه لتشكيل الحكومة، وخريطة للحكومة العتيدة، وتوزيعاً للحصص داخل الإدارة اللبنانية. لكن التفاهمات المفترضة تفرض أيضاً شروطاً على العالم، سواء في مسألة مطالبته ببرامج لإعادة الأعمار، أو في تفسير "غبّ الطلب" لقرار مجلس الأمن رقم 1701. وفيما سيجد أهل "الحرد" مخارج أمام جمهورهم للتعامل مع الوضع المستجدّ في لبنان، فإن نكبة "الثنائي" أنه يكتشف فجأة أن عواصم القرار حين قررت عدم التدخل وترك الأمر للبنانيين وبرلمانهم، جرّدت أي اتفاق مزعوم مسبق من أي غطاء خارجي ضامن وحرر أهل البلد نهاراً من قيود ما حيك ليلاً. والواضح جداً أن كارثة الحرب الأخيرة في لبنان، وسقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وانشغال الجمهورية الإسلامية في إيران بالتحضير لاتفاق ما مع "الإخوة" في الولايات المتحدة، وفق كلمات الرئيس مسعود بزشكيان، لم يترك لمن حكم البلد، منذ 2005، إلا نعمة الحرد. والحال أن ردّ الفعل على تحوّلات لبنان بعد تلك في سوريا يبدو داخل إطار المنطق وسياقاته. يسهل هنا استنتاج حالة التأقلم والسعي إلى التعامل مع "الأمر الواقع" في طهران، وحالة الذهول والإنكار والتشبث بقواعد زمن بات راحلاً في بيروت. ولن يطول الأمر حتى تظهر أعراض جديدة، قد تكون دوافعها (للأسف) من طهران، للانخراط في ورشة عمل عون-سلام، ليس لأن الأمر مطلب لبناني عام وحسب، بل لأنه بات حاجة ملحّة لشيعة البلد الذين يعيشون في قراهم ومدنهم نكبة حقيقية لا تحجبها مزاعم النصر التي باتت نافرة تعبّر عنها بيأس حسابات التواصل الاجتماعي. تبدو طهران عائدة إلى إيران تودّع أذرعها وتنشغل بمصالحها حريصة على الاهتمام بملفاتها. انتهى زمن طال منذ عام 1979. صار التحوّل السوري حقيقة لا رجعة عنها يدعمه قرار إقليمي دولي واضح. والأجدى في لبنان التخلي عن أي حرد، والتحصّن بالبلد ودستوره، والعمل بأصول وقواعد مقاربة التحوّلات الدولية ومغادرة حالة شاذة انتهت صلاحياتها.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد