باتصاله المفاجئ بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كسر المستشار الألماني أولاف شولتس طوق العزلة الأوروبية المضروب حول سيد الكرملين منذ الأشهر الأولى التي تلت اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية في شباط (فبراير) 2022. والسؤال الجدير بالطرح هنا هو عن الدافع الذي حدا بشولتس إلى هذه المبادرة والغاية من ورائها. بادئ ذي بدء، ألمانيا مقبلة على انتخابات تشريعية مبكرة في 23 شباط (فبراير) المقبل، وشعبية الحزب الديموقراطي الاشتراكي، بزعامة شولتس، في أدنى مستوياتها. تُرجّح استطلاعات الرأي أن يحلّ في المرتبة الثالثة بعد الاتحاد الديموقراطي المسيحي وحزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف. هذا يعني أن شولتس، أولاً، يوظف الاتصال ببوتين كي ينتقل بألمانيا من دور الداعم لأوكرانيا إلى دور الوسيط. قبل الاتصال ببوتين، اتصل المستشار بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. وهذا يشير إلى أن الزعيم الألماني يسعى إلى استكشاف إمكانات أن تبادر أوروبا إلى طرح مبادرة للسلام قبل أن يتولى الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب مهامه رسمياً في 20 كانون الثاني (يناير). وقد يستفيد شولتس من هذا التحرك لاستعادة بعضٍ من التأييد في الداخل. كل المؤشرات توحي بأن ترامب يعتزم الدفع، وبسرعة، إلى تسوية للنزاع الأوكراني. وحتى زيلينسكي صار أكثر ميلاً إلى التسليم بأن 2025 سيكون عام الحل في أوكرانيا، وبأن ترامب عازم على دفع كييف وموسكو للجلوس إلى طاولة المفاوضات، لأن البديل عن ذلك سيكون وقف المساعدات الأميركية عن أوكرانيا، بينما أوروبا غير قادرة وحدها على تعبئة الفراغ الأميركي. شولتس ليس بعيداً عن هذا المناخ، وهو يعلن على نحوٍ متكرر أنه يرفض زجّ ألمانيا في الحرب، إلى درجة أنه قاوم الضغوط الفرنسية والبريطانية التي مورست عليه كي يزود كييف بصواريخ "توروس" بعيدة المدى. وسبق له أن أظهر تردداً واضحاً عند طرح فكرة تزويد أوكرانيا بدبابات "ليوبارد 2" المتطورة العام الماضي. بمبادرته إلى الاتصال ببوتين، يستبق شولتس الاتصال المتوقع بين ترامب وبوتين، حتى أنه قيل إن هذا الاتصال قد حصل فعلاً بعد تهنئة الزعيم الروسي لترامب على فوزه... لكن الكرملين نفى الأمر. عامل آخر، أخذه شولتس في الحسبان، هو أن الرأي العام الألماني لا يبدي حماساً للحرب، ويؤيد التوصل إلى تسوية سلمية. وهذا عائد إلى أسباب اقتصادية بالدرجة الأولى. ذلك أن الاقتصاد الألماني لم يتعافَ بعد من إغلاقات كورونا، ثم اندلعت الحرب التي أدت إلى ارتفاع حادّ في أسعار الطاقة. والاقتصاد هو من الأسباب الرئيسية التي دفعت بشعبية شولتس نزولاً، وأدّت إلى مشاجرات بين أحزاب الائتلاف الحاكم، حتى انفجر الخلاف الأسبوع الماضي، نتيجة إقالة شولتس وزير المالية كريتسان ليندر الذي ينتمي إلى حزب الأحرار، نتيجة الخلاف على الموازنة. وإذا كان القادة الأوروبيون قد انقسموا حيال جدوى المكالمة الهاتفية بين شولتس وبوتين، فإن هذه المبادرة حركت المياه الراكدة بين أوروبا وروسيا، في وقت لا بدّ من أخذ الوضع الميداني في الاعتبار. ويحقق الجيش الروسي تقدماً سريعاً على جبهة دونيتسك، وكأنه يسابق الزمن كي يحرز مكاسب أكبر نحو السيطرة على مزيد من إقليم دونباس قبل دخول ترامب إلى البيت الأبيض. كذلك، أصبحت نقطة القوة، التي كان يحسبها زيلينسكي في مصلحة أوكرانيا، وهي الاختراق في منطقة كورسك الروسية، عبئاً على القوات الأوكرانية التي خسرت نصف ما سيطرت عليه هناك، وهي واقعة الآن تحت ضغط الجيش الروسي والقوات الكورية الشمالية، التي تقول كييف إنها تنخرط في القتال على هذه الجبهة. كل ذلك لا بدّ له من أن يشكّل حافزاً لشولتس كي يهاتف بوتين، ويتخذ خطوة إلى الأمام في ميدان استكشاف احتمالات التسوية السياسية. ولا يبدو أن قرار الرئيس الأميركي جو بايدن السماح لأوكرانيا باستخدام صواريخ أميركية بعيدة المدى ضد أهداف في داخل روسيا، سيُغير كثيراً من الواقع الميداني والاستراتيجي.
شولتس يسبق ترامب إلى أوكرانيا
مواضيع ذات صلة