راغب جابر
لا تزال الحرب بين "حزب الله" وإسرائيل في أوّلها. صحيح أنها بدأت قبل عام تقريباً، إلا أنها لم تبلغ المستوى الشمولي إلا خلال الأيام القليلة الماضية عندما نقلت اسرائيل ثقلها الحربي من غزة الى الشمال مطلقة موجات لا سابقة لها من الغارات على مواقع "حزب الله" ومناطق انتشاره ونفوذه وعلى قياداته.
حتى الآن هي حرب بين "حزب الله" وحده وبين اسرائيل من جهة أخرى، والأرجح أنها ستبقى هكذا حتى تفرض الوقائع الميدانية والمجازر اليومية والجهود الدبلوماسية تسوية ما يخرج الطرفان منها وليعلن كل طرف انتصاره.
تخوض إسرائيل حرباً هجومية فيما يخوض "حزب الله" حرباً دفاعية. هي حرب وجودية بالنسبة الى الطرفين، نهايتها سترسم مستقبلهما، ولذلك اتخذت هذا المسار العنيف، لا سيما من جانب اسرائيل التي رمت بثقلها العسكري والاستخباري في محاولة لشل قدرة الحزب الصاروخية، وهي مصدر قوته الأول، فاغتالت عدداً من قياداته المسؤولة بشكل خاص عن القوة الصاروخية وأغارت على عشرات المواقع في الجنوب والبقاع التي تعتقد أن "حزب الله" يخزن فيها صواريخه. ستكشف الأيام مدى الضرر الذي ألحقته الغارات بقدرات الحزب الذي أظهر أيضاً أنه لا يزال قادراً على إطلاق الصواريخ من الجنوب القريب من الحدود لتصل الى حيفا وإلى ما بعد حيفا وإلى تل أبيب وغيرها.
يخوض الطرفان حربهما بعقليتين مختلفتين كلياً، ويعود ذلك الى طبيعة كل منهما وإلى الأدوات التي يمتلكها والعقيدة الخاصة بكل منهما، وللمصادفة، تقود كل من الطرفين ايديولوجيا دينية تشكل عصب الاستقطاب لديه. ثمة ما تمكن ملاحظته وقراءة خلفياته في محاولة لتفسير تطور مجريات الحرب الدائرة.
منذ حرب تموز (يوليو) 2006 تعاملت الطبقة السياسية في اسرائيل مع نتائج الحرب على أنها خسارة رغم كل الدمار الذي ألحقته بلبنان والخسائر التي أنزلتها بـ"حزب الله" على صعيد عدد القتلى والجرحى والبنية التحتية، وذلك لأنها فشلت في محاولتها التقدم البري وفي كسر شوكة الحزب. وبما أنها اعتبرت ضمناً أنها خسرت من سمعتها العسكرية وهيبتها في مواجهة تنظيم محدود التسليح كمّاً ونوعاً قياساً بتسليحها الحديث والمدمر، عملت طوال 18 عاماً على التحضير لهذه الحرب التي لو لم تشعلها حرب غزة لكان أشعلها سبب آخر. كانت الخطط جاهزة منذ زمن بانتظار الظروف الملائمة. مخطئ من كان يظن أن اسرائيل تقبلت هزيمة 2006، هزيمة مثل هذه تعني لقادة اسرائيل السياسيين والعسكريين أن مصير الكيان أصبح في خطر. وفيما كان "حزب الله" يخزن عشرات آلاف الصواريخ التي بات يصنع بعضها وتمدّه إيران بالكثير منها مع الطائرات المسيرة وذخيرتها، كانت اسرائيل تبرم صفقات طائرات "أف 35" الأميركية (الشبح) الأكثر تطوراً في العالم وتبني منظومات الصواريخ المضادة للصواريخ والطائرات بمساعدة أميركا وبصناعة محلية.
لكن الأخطر من كل ذلك أن اسرائيل المتسلحة بتكنولوجيتها المتطورة، وبالتأكيد بالعون الأميركي، كانت تعمل على الجانب الاستخباري المعتمد على التكنولوجيا الفائقة التطور، فوضعت منذ سنين بعيدة نظام اتصالات "حزب الله" تحت المراقبة. لم تخرق شبكة "البيجر" وشبكة "التكي ووكي" فحسب، بل خرقت الهواتف النقالة التي يستخدمها كوادر "حزب الله"، وهو ما اكتشفه الحزب وأعلنه أمينه العام حسن نصرالله أخيراً عندما وصف الهواتف الخليوية بـ"العملاء"، لكن الخرق كان قد حصل وكل داتا المكالمات التي يجريها كوادر الحزب أصبحت لدى الإسرائيليين (وربما عبر أميركا التي تسيطر على عالم الاتصالات في العالم كله). ليس بالضرورة أن يكون هناك عملاء أرشدوا الطائرات الإسرائيلية إلى كل المواقع التي استهدفتها. إنها التكنولوجيا التي استثمرت إسرائيل فيها بشكل فعال.
في مقابل التكتم الإسرائيلي على ما تعده، مارس "حزب الله" أسلوباً مغايراً في الحرب النفسية خلال السنوات الماضية ما بعد حرب تموز (يوليو). كان الحزب يتبع خطة استلهمها من الإيرانيين تقوم على تخويف العدو بما يملكه من قدرات حتى لو اضطر إلى الكشف عنها، كمثل الكشف عن عدد المقاتلين وأعداد الصواريخ وأنواعها وما يمكن أن تحدثه من دمار. كان ذلك تكتيكاً إعلامياً ونفسياً له مراجعه في طهران. أما جدواه فللحزب أمر تقييمها.
في حرب تموز فاجأ الحزب دبابات الميركافا الإسرائيلية في سهل الخيام بالصواريخ المضادة للدروع التي كانت مخفية تحت الأرض وفي الخنادق المحصنة، لكن اسرائيل تعرف اليوم كل انواع الصواريخ الإيرانية ومداها وفعالياتها، فالإيرانيون يكثرون الحديث عما لديهم ويعرضونه في الساحات والشوارع متباهين ومهددين. وليس سراً ينكره الإيرانيون أن جبهتهم مخترقة اسرائيلياً وأميركياً.
تقاتل اسرائيل "حزب الله" باعتباره قوة كبيرة تهدد وجودها، ولا يتوقف قادتها السياسيون والعسكريون عن الحديث عن تعاظم قوة الحزب وعن قدرته على ضرب المدن والمنشآت الإسرائيلية بمختلف أنواعها، ليبرروا لشعبهم الحرب التي يشنونها والأثمان التي يجب على الإسرائيليين دفعها، وأيضاً لإقناع الرأي العام العالمي بأنهم يخوضون حرباً دفاعية مشروعة، في مقابل قصور دعائي كبير لمحور المقاومة الذي تقوده إيران وتخبط في المواقف والخطوات.
لم تتحرك بعد جبهات المساندة، لا من العراق ولا من اليمن، وبالتأكيد ليس من إيران التي تُفهم الآن بوضوح خلفيات انتخابها مسعود بزشكيان رئيساً جديداً لها وإلى يمينه محمد جواد ظريف، وهما يفضلان العلاقة مع الغرب التي قد تنقذ البرنامج النووي الإيراني، على خوض حرب ضد اسرائيل قد تكون معها نهايته وحشد العالم الغربي وعلى رأسه أميركا لضربها في اقتصادها وبنيتها التحتية وخلخلة نظامها.
يخوض "حزب الله" اليوم حربه وحيداً، فلا إسناد أتى ولا عالم يهتم بالضحايا في ظل انقسام أفقي وعمودي في البلد الذي لا رأس له.