لا يكاد يخرج الشرق الأوسط من حرب حتى يدخل في أخرى، وما يمكن تسميته بـ«الهدن»، يبدو أنه مجرد مساحة زمنية مؤقتة بين حربين، تستعدّ فيها أطراف عديدة لخوض المعارك، وإجبار المجتمعات والأفراد على دفع أثمان باهظة من حيواتهم وحاضرهم ومستقبلهم، وتحويل الهجرة والنزوح واللجوء، وكلّها تنويعات على حالة التغيير الديموغرافي، أمراً روتينياً، وظاهرة، يكاد يختصّ بها الشرق الأوسط، خصوصاً منذ الغزو الأمريكي للعراق، وما تلاه من اضطرابات وحروب داخلية، في عدد من البلدان، وهذه الموجة الجديدة، سبقتها موجتا اللجوء الفلسطيني في عامي 1948 و1967، ولاحقاً هروب عدد كبير من المواطنين اللبنانيين، من نيران الحرب الأهلية، أواسط سبعينات القرن الماضي. على الرغم من وجود تباينات عديدة، بعضها جوهري وعميق، بين أنظمة الحكم في الشرق الأوسط، التي تجمعها أيضاً العديد من السمات المشتركة، إلا أنه، لا التباين يجعلها مختلفة كثيراً عن بعضها بعضاً، ولا التشارك في بعض السمات، يجعلها متطابقة، وربما، كان الشرق الأوسط فريداً إلى حدّ بعيد في هذه الحالة، فنحن أمام دول لديها نزوع إمبراطوري توسّعي، بعضه متّصل بماضيها البعيد نسبياً، ودول أخرى، تحاول الصمود وسط بحر هائج من الصراعات والطموحات، لتحقيق مستوى من الاستقرار والتنمية، كما أن الأنظمة السياسية، فيها خلط واضح بين القديم والحديث، بين تفرّعات وتنويعات، من مثل البرلمان، والقضاء المدني، والمؤسسات المحلية، وغيرها من الأشكال التي تنتمي إلى مفهوم وواقع الدولة الحديثة، ولا تخلو معظم أنظمة الحكم في الشرق الأوسط من حضور للدين في الحياة السياسية العامة، ليس فقط في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، التي يشترك في اسمها عنوانان، أحدهما ديني «الإسلامية»، والثاني علماني «الجمهورية»، بل أيضاً تركيا وإسرائيل، وخصوصاً في الثانية، حيث تصنّف نفسها بأنها «دولة يهودية»، وتخوض فيها الأحزاب الدينية في غمار السياسية، وتشارك في جميع مفاصل الدولة. في الاقتصاد السياسي للمنظومات الإقليمية، يعدّ النموذج السياسي الموحد في منظومة إقليمية ما، أحد الأسباب الأساسية لنمو وازدهار مجمل دول المنظومة، إذ يعكس هذا النموذج حالة التطوّر التاريخي المتكافئة إلى حد كبير في الدول والمجتمعات التي تنتمي إلى هذه المنظومة، إذ يسهل البناء على المشتركات الموجودة بين الدول من خلال التشابهات الموجودة في الأنظمة السياسية، التي تصل في أحيان كثيرة إلى حدّ التطابق، وتشكل الدساتير، التي تتضمن مواد دستورية ذات مرجعيات واحدة رافعة للعمل المشترك العابر للحدود، وتسهّل عملياً بناء روابط مصلحية فيما بينها، تخدم جميع الأطراف، وبالدرجة الأولى، تخدم عملية الاستقرار في المنظومة الإقليمية على المدى الطويل، أي إنه من الناحية العملية، يصبح خيار النزاع العسكري خياراً غير مرغوب فيه، بل ربما خارج حسابات السياسيين، على اختلاف انتماءاتهم الأيديولوجية، سواءً أكانوا في اليمين أو اليسار، وهو ما ينقل الصراعات من كونها صراعات حدّية صفرية إلى المجال التنافسي، في الاقتصاد والعمران والبحث والتعليم والأنظمة الصحية، وغيرها من المجالات التي تبرز حالة التقدّم والتفوّق. تسهم وحدة الأنظمة السياسية أو تشابهها من حيث المصادر والبنى، في المنظومة الإقليمية، في منح الاقتصاد المشترك «البيني» أهمية كبرى، بحيث تستفيد الدول من إمكانية التعاون المشترك في البنى التحتية التي تخدم توسيع دائرتي الإنتاج والتصريف في الوقت نفسه، وقد أصبحت بنى السكك الحديدية، على سبيل المثال لا الحصر، واحدة من أهم المؤشرات على ترابط الاقتصاد في المنظومات الإقليمية، لأهميتها في نقل البضائع والأفراد، وقد بلغ طول السكك الحديدية في أوروبا نحو 218 ألف كيلومتر، جزء كبير منها مخصّص للنقل والانتقال بين الدول، الأمر الذي يسمح للصناعيين والتجار والمزارعين بنقل منتجاتهم بسرعة كبيرة إلى الدول الأخرى، في حدود مفتوحة، واتفاقيات تجارية واضحة، ما يسمح باستقرار الأسواق بشكل متكافئ في جميع بلدان الاتحاد الأوروبي، وما هو مهم أيضاً، أن هذه الصيغة التبادلية، تسمح بنشوء حالة من التكامل الاقتصادي بين بلدان المنظومة. في الشرق الأوسط، إذا ما استثنينا دول مجلس التعاون الخليجي، سنجد أن الخريطة الاقتصادية بين البلدان في حالة شبه عطالة، إذ إن عمليات التبادل في حدودها الدنيا، كما أنه لا توجد آليات أو بنى للاقتصاد التكاملي، في الوقت، الذي تعدّ فيه هذه البلدان من البدان الفتية، إذ يشكّل الشباب العنصر الأكبر في سكانها، بنسبة تصل إلى 32% من مجموع عدد السكان (أفراد هذه الفئة بين 15 و29 عاماً)، لكن أيضاً نسبة البطالة هي من الأعلى في العالم، إذ تبلغ نحو 27%، في الوقت الذي بدأ يشيع فيه اقتصاد الحرب في عدد من بلدان الإقليم، لتصبح الحرب وسيلة لتأمين ريع مالي، في ضوء غياب أو انعدام الاقتصاد الطبيعي. ليس من المتوقع في ضوء غياب نموذج حديث للأنظمة السياسية في الشرق الأوسط، تراجع منسوب الصراعات، إذ إن الحرب أصبحت وسيلة هروب من استحقاقات تغير الأنظمة السياسية الحالية، لكن أيضاً، هذه الحروب المتواصلة، من شأنها تأكيد فشل النماذج القائمة، وإبراز الحاجة إلى التغيير، كمقدمة لاستقرار مجمل النظام الإقليمي.
البحث عن النموذج فـي النظـــام الإقليمـــي
مواضيع ذات صلة