حاتم البطيوي
تحل في العام المقبل ذكرى اليوبيل الذهبي للمسيرة الخضراء السلمية، وهي مناسبة تحمل دلالات كبيرة بالنسبة إلى المغرب والمنطقة ككل.
هذه المسيرة دعا إلى تنظيمها العاهل المغربي الراحل الملك الحسن الثاني لاسترجاع الصحراء المغربية من الاستعمار الإسباني، وذلك بمشاركة 350 ألف مغربي ومغربية.
بيد أن هذه الخطوة التي حققت أهداف المغرب لم تكن نهاية المطاف بالنسبة إليه. فعقب انطلاق المسيرة الخضراء في 6 تشرين الثاني (نوفمبر) 1975، وجد المغرب نفسه في مواجهة حرب استنزاف عسكرية ضارية، وأخرى دبلوماسية طاحنة متواصلة حتى الآن في المسالك الدبلوماسية، وفي المنظمات والمنتديات الدولية.
ورغم أن الحرب الباردة أصبحت جزءاً من التاريخ، فإن آخر أوكار بقايا الاتحاد السوفياتي في شمال أفريقيا ما زالت تعض بالنواجذ على مواصلة تلك الحرب، من أجل تحقيق أحلام عفّى عنها الزمن.
باستثناء دول الخليج العربية الست، والمملكة الأردنية، التي شاركت معظمها في المسيرة، واتخذت منذ البداية مواقف لا تتزعزع قيد أنملة، واضحة وضوح شمس آب (أغسطس) اللهاب في كبد السماء، واعترفت بمغربية الصحراء، وحرصت على وحدة تراب المغرب، تظل باقي الدول العربية صامتة وفي حال شرود إزاء ما يتعرض له المغرب من محاولات الاستهداف والنيل من وحدة أراضيه، مختارة موقف الحياد من دون أن تدرك أنها جميعها معرضة، طال الزمن أم قصر، لما يتعرض له المغرب منذ نحو نصف قرن تقريباً.
صحيح أن الكثير من الدول العربية تعاني وطأة الأزمات والحروب الأهلية التي جعلتها تنخرط في نادي الدول الفاشلة أو قاب قوسين من أن يصبح بعضها دولاً مارقة.
حبذا لو تقرأ هذه الدول بتمحيص وإمعان شديدين نظريات الكاتب البريطاني الأميركي برنارد لويس، المؤسسة لتقسيم العالمين العربي والإسلامي.
في عز الحرب العراقية - الإيرانية (1980-1988)، نُسب إلى زبيغنيو بريجنسكي، الذي شغل منصب مستشار الأمن القومي للرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر (1977- 1981)، تصريح مفاده أن المعضلة التي ستعانيها الولايات المتحدة هي: كيف يمكن تنشيط حرب خليجية ثانية تكمل أهداف ما بدأته الحرب الأولى؟
عقب ذلك، كلفت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) برنارد لويس إنجاز مشروعه الشهير الخاص بتفكيك الدول العربية والإسلامية، كل على حدة، وهي العراق وسوريا ولبنان ومصر والسودان ودول الخليج العربية ودول المغرب العربي، وتفتيت كل منها إلى مجموعة من الكانتونات والدويلات العرقية والدينية والمذهبية والطائفية.
أرفق لويس مشروعه المفصل بمجموعة من الخرائط المرسومة تحت إشرافه، وتشمل جميع الدول العربية والإسلامية المرشحة للتفتيت، بوحي من مضمون تصريح بريجنسكي. تلى ذلك موافقة الكونغرس على مشروع لويس، ليجري تقنينه واعتماده وإدراجه في ملفات السياسة الاستراتيجية الأميركية لسنوات مقبلة.
كانت رسالة برنارد لويس لواشنطن في عام 2001 بشأن الوضع في الشرق الأوسط بسيطة وواضحة، تقوم على نقطتين أساسيتين يجب الاختيار بينهما: إما القسوة أو الخروج. وقد أوجد لويس مبررات لتزايد الكراهية إزاء أميركا، ودافع باقتناع عن ذلك حين قال: "لا يمكن أن تكون غنياً وقوياً وناجحاً ومحبوباً، خصوصاً من جانب أولئك من يفتقدون القوة والثراء والنجاح، لذلك فإن الكراهية شيء بديهي".
يبقى مشروع برنارد لويس مجرد نقطة في بحر مشاريع تفتيتية أخرى تروم تحقيق الأهداف ذاتها.
ومن يمحص النظر في أوضاع سوريا مثلاً، يجد أنها فقدت ملامحها، بينما فقد لبنان ظله وعنفوانه الحضاري، ونخرت الطائفية العراق، أما اليمن فقد ابتلعته دولة الولي الفقيه، والسودان تقطعت أوصاله جنوباً، فيما زادت الحرب بين الإخوة الأعداء في الشمال الطين بلة، وجعلت من هذا البلد الذي اعتبر ذات يوم سلة غذاء العالم العربي بلداً مقبلاً على مجاعة ماحقة. أما ليبيا، فقد اشترت تذكرة ذهاب من دون عودة نحو التقسيم والتشرذم.
في سياق هذا الوضع المزري والسريالي، تظل الجزائر المصرة على تفتيت المغرب واجتزاء صحرائه منه من بين أكثر الدول العربية عرضة للتقسيم والتجزئة (القبائل في الشمال، والطوارق في الجنوب، والإباضيون في وسط البلاد). فمعروف أن إمكانية تعرض أي دولة للتقسيم تعتمد على عوامل عدة، منها التوترات الداخلية، والاختلافات العرقية أو الطائفية، والمشكلات الاقتصادية والسياسية، وكذلك التدخلات الخارجية. وهي كلها عوامل تطرق باب الجزائر.
واضح أن المنطقة العربية تمر بمرحلة حساسة تتطلب قراءة معمقة لمخططات التفتيت التي تستهدفها قبل أن يفوت الأوان، لا سيما أن بعض هذه المخططات بدأ يتحقق على أرض الواقع، إذ نراها، كما سبق الإشارة إلى ذلك، في دول مثل العراق وسوريا واليمن والسودان وليبيا.
مع ذلك، يبقى الأمل كبيراً في أن تدرك الدول العربية، التي ما زالت واقفة مثل سنديانة، المخاطر المشتركة التي تواجهها، وأن تتخذ مواقف أكثر صلابة في دعم وحدة المنطقة واستقرارها، بدلاً من الانغماس في نزاعات تضر بها الجميع مثلما تضر بها نفسها من حيث لا تدري.