غيرت ثورة الصخري أنظمة الطاقة في العالم، كما نتجت منها آثار اقتصادية وسياسية عدة، إذ تحولت الولايات المتحدة من مستورد للنفط إلى أحد أكبر مصدري النفط في العالم، كما تحولت من مستورد للغاز تحاول أن تؤمن واردات الغاز المسال من أماكن مختلفة في العالم، خصوصاً قطر، إلى أكبر دولة مصدرة للغاز المسال في العالم، منافسة بذلك قطر. ونظراً إلى وفرة الغاز الرخيص، تم استخدامه في محطات الكهرباء، فانخفض استخدام الفحم. هذا التطور نتج منه أمران: الأول هو انخفاض انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون والثاني هو زيادة صادرات الفحم! ونظراً إلى توافر الغاز والغازات السائلة، عادت شركات البتروكيماويات للاستثمار في الولايات المتحدة، بعد أن بدأت بالهجرة منها.
الآثار الاقتصادية لثورة الصخري لا تقدر بثمن، فهذه الآثار لا تتمثل في الاستثمارات والأرباح والعمالة والضرائب فقط، ولكنها تمتد إلى الجزء الأضخم: انخفاض أسعار النفط والغاز عالمياً، مما أسهم في النمو الاقتصادي العالمي وأنعش اقتصادات الدول الفقيرة. هذا الجزء لا يقدر بثمن، بعبارة أخرى تصور عزيز القارئ العالم من دون ثورة الصخري، من دون 9 ملايين برميل يومياً من النفط الخام، وبضعة ملايين أخرى من الغازات السائلة، ومن دون 55 مليار قدم مكعبة من الغاز!
سياسياً استفادت الولايات المتحدة من ثورة الصخري فوائد عدة وكلها لا تقدر بثمن، ففي بداية الألفية بدأت الولايات المتحدة تستعد اقتصادياً وسياسياً لزيادة الاعتماد الكبير على واردات النفط من دول "أوبك"، وواردات الغاز من قطر، وبدأت أوروبا بزيادة اعتمادها على الغاز الروسي. مع زيادة إنتاج النفط والغاز في الولايات المتحدة، جاء الرئيس السابق دونالد ترمب ليقلص دور الولايات المتحدة عالمياً لاقتناعه أنها لم تعد بحاجة إلى حماية منابع النفط والغاز والمضائق المائية التي تمر بها هذه الموارد. هذا التراجع أسهم في تغيير مستويات القوى الإقليمية في مناطق مختلفة من العالم.
وما كان للرئيس ترمب أن يعيد فرض العقوبات على إيران في 2018 ويفرض عقوبات على فنزويلا في 2017 و2018 لولا ثورة الصخري وتوافر النفط والغاز بكميات كبيرة في الولايات المتحدة.
وما كان للرئيس الحالي جو بايدن أن يحارب روسيا في أوكرانيا ويفرض، مع دول الاتحاد الأوروبي، حظراً على النفط الروسي، وتقليص إمدادات الغاز الروسية، لولا ثورة الصخري. ثورة الصخري هي التي أسهمت في تماسك دول الاتحاد الأوروبي، لأن الولايات المتحدة استطاعت إمداد دول الاتحاد بكميات ضخمة من النفط والغاز، واستطاعت أن تأخذ ثلثي حصة روسيا من الغاز في أوروبا.
وهنا لا بد من التذكير بسياسات الأمن القومي الأميركية ونظرتها لأسعار النفط: إذا كان أمام الولايات المتحدة خمسة خيارات للتعامل مع دولة نفطية معادية، وأدى ارتفاع أسعار النفط إلى تقليص هذه الخيارات إلى ثلاثة، فإن ارتفاع أسعار النفط في هذه الحالة، والناتج من عدم وفرة الإمدادات، يعد تهديداً للأمن القومي. في مثالي ترمب وبايدن أعلاه، العكس بالعكس: توافر النفط والغاز أسهم في توسيع خيارات التعامل مع إيران وفنزويلا وروسيا، ومن ثم فإن ثورة الصخري عززت من الأمن القومي الأميركي.
ولكن يبقى السؤال: ما سر ثورة الصخري الأميركية، ولماذا لم تنتقل إلى دول أخرى؟
كما في أية ثورة في أي بلد، تسهم عوامل خاصة في حدوث ثورة في وقت ما في مكان ما، وثورة الصخري لا تشذ عن هذه القاعدة. إذ أسهمت عوامل عدة في حدوث ثورة الصخري في الولايات المتحدة، إلا أنه لا يمكن تناسي مقولة "الحاجة أم الاختراع"، إذ إن كل التوقعات في بداية الألفية أشارت إلى زيادة كبيرة في اعتماد الولايات المتحدة في العقود المقبلة على واردات النفط والغاز، وزيادة اعتمادها على النفط والغاز العربيين تحديداً، مع توقعات بارتفاع أسعارهما بشكل كبير، ولفترة طويلة من الزمن. هذا يعني أن الأجواء الاقتصادية والمالية والسياسية كانت مهيأة للثورة، ثورة الصخري.
الذي يميز الولايات المتحدة عن غيرها هو الملكية الخاصة للموارد الطبيعية، إذ يملك الشخص الأرض وما تحتها بكل ما تتضمنه من موارد، كما يمكن للشخص أن يتملك سطح الأرض ويبيع باطن الأرض لآخرين. الملكية الخاصة هي السبب الرئيس لحدوث ثورة الصخري.
أسهمت عوامل أخرى في هذه الثورة منها وجود الأطر القانونية للاستثمار والحفر ومد الأنابيب والضرائب، وتوافر التمويل من جهة، وتقدم وتنوع أساليب التمويل من جهة أخرى، ووجود أسواق مالية متقدمة، ووجود الجامعات المميزة بتعليمها وتدريبها وبحوثها. وما يميز أغلب حقول الصخري الأميركية أنها سطحية مقارنة بكثير من الدول الأخرة، ومستقرة جيولوجياً، مع توافر كميات كبيرة من المياه. هذه العوامل تخفض التكاليف مقارنة بما هو عكس ذلك.
كما أسهم الاستقرار السياسي في الولايات المتحدة في تدفق الاستثمارات إلى شركات الصخري من داخل الولايات المتحدة وخارجها، إضافة إلى الاستقرار النسبي للدولار الأميركي، وكذلك إمكان استيراد المعدات اللازمة من دون قيود استيراد مجحفة، وإمكان تصدير النفط والمنتجات النفطية والغاز والغاز المسال، وهي أمور دعمت الصناعة.
خلاصة القول إن هناك عوامل قانونية واقتصادية ومالية وجيولوجية خاصة بالولايات المتحدة مكنت من حدوث ثورة الصخري وتوسعها واستمرارها، ثم جاء بعدها إدراك قادة الولايات المتحدة للدور الاستراتيجي للنفط والغاز الأميركيين في دعم الأمن القومي الأميركي والسياسة الخارجية الأميركية، مما يعني أن الحكومات الأميركية المتعاقبة ستستمر بدعم صناعة النفط والغاز الأميركية بشكل مباشر أو غير مباشرة، على رغم سياسات التغير المناخي وعلى رغم العداء الظاهري للنفط والغاز. لهذا سنجد أن الولايات المتحدة ستقوم بحماية سوقها للغاز المسال في أوروبا، ومنع أوروبا من التوسع في الطاقة النووية والرياح والشمسية!
ولا شك أن بعض الدول تستفيد من التجربة والتقنيات الأميركية، أهمها الأرجنتين والصين والسعودية، وحالياً البحرين، إذ تقوم هذه الدول بتطوير احتياطاتها غير التقليدية، ولكنه ليس انتقالاً للثورة، والنتائج ستبقى محدودة محلياً أو إقليمياً على كل الحالات.