في عمق الوجود الإنساني، تحاك الحكايات والأساطير والروايات بمهارة، لتنسج من حولنا نسيج الواقع الذي نعيش فيه. ليس مجرد واقع مادي محسوس بالحواس، بل واقع اجتماعي وثقافي يشكل تصوراتنا عن الذات والآخر، ويحدد طريقة تفاعلنا مع هذا العالم الواضح الغامض؛ هذه القوة الخفية للثقافة السردية تعمل كنحات ماهر، تشكل من الأفكار والمعتقدات تماثيل تسكن في ذهن كل فرد، وتعيد تشكيل الواقع الاجتماعي بأسره.
كيف تؤثر القصص على الذات
تشكل القصص هوياتنا؛ إنَّها تعطينا اللغة والصور التي نستخدمها لفهم أنفسنا ولتفسير تجاربنا. من خلال الحكايات والروايات، نتعلم القيم والمعايير ونستشف العبر والمواعظ التي تحدد ما هو مقبول وما هو مرفوض في مجتمعاتنا.
فالطفل الذي ينشأ على قصص الشجاعة والتضحية يتشكل وعيه حول مفهوم البطولة والفضيلة، بينما القصص التي تنقل تجارب الخيانة والغدر تعلمه الحذر والتمييز بين الصديق والعدو.
تأثير القصص على التصورات عن الآخر
إنَّ القصص لا تشكل فقط تصوراتنا عن ذواتنا، بل وتؤثر أيضاً على كيفية رؤيتنا للآخرين..، فالأساطير والحكايات التاريخية التي تمجد حضارة معينة وتقلل من شأن أخرى تغرس في الأذهان صورة نمطية قد تؤدي إلى التحيز والتمييز أو ربما العنصرية، أمَّا الروايات التي تعرض ثقافات بعيدة بشكل سطحي أو مشوه فتؤدي إلى سوء الفهم والجهل بالآخر، الشيء الذي من شأنه تعزيز الانقسامات بدلاً من تواصل الجسور بين الثقافات.
بناء الواقع الاجتماعي
للقصص القدرة القوية على بناء الواقع الاجتماعي وإعادة تشكيله، ففي كل مرة نروي فيها قصة، نساهم في ترسيخ القيم والمعتقدات التي تحملها تلك القصة في نسيج المجتمع، كما أنَّ الأدب، سواء أكان شعراً أو نثراً، يمكن أن يكون أداة قوية للتغيير الاجتماعي، مثيراً الوعي وداعياً إلى العمل؛ فمثلاً الروايات التي تتناول قضايا مثل العدالة الاجتماعية، التمييز، والتحرر، لا تقدم فقط تسلية بل توجه الأنظار نحو القضايا المهمشة وتشجع على التفكير والنقاش.
إقرأ أيضاً: العشوائيات الديمقراطية
في النهاية، وفي عمق عالم متزايد التعقيد، تظل الثقافة السردية بمثابة البوصلة التي ترشدنا عبر متاهات الواقع الاجتماعي، وذلك لكون القصص والأساطير والروايات ليست مجرد هروب من الواقع، بل هي أدوات بناء تشكل تصوراتنا وتحدد طريقة تفاعلنا مع العالم، فمن خلال فهم الدور الذي تلعبه هذه السرديات في حياتنا، يمكننا أن نصبح أكثر وعياً بالقوة التي نملكها لتشكيل واقعنا الاجتماعي والثقافي، وبالتالي، نحمل مسؤولية أكبر تجاه القصص التي نختار أن نرويها ونعيشها.