: آخر تحديث

أنهار جديدة للعدالة الدولية

11
17
12

لم تشهد خرائط العالم صبراً في قضية مثلما شهدتها في القضية الفلسطينية، عشرات الاتفاقيات والمبادرات من أجل استرداد وعودة الحقوق إلى أصحابها في تقرير مصائرهم بأنفسهم، لكن سرعة الأزمنة أخذت من عمر هذه القضية 75 عاماً، تغيرت خلالها دول وأمم وإمبراطوريات، ونشبت حروب وصراعات. تحولت سياسات وأفكار، كل هذا جرى بينما ظلت فلسطين قضية مزمنة على موائد التفاوض العالمية دون حل، حتى جاءت قرارات محكمة العدل الدولية بشأن الحرب على غزة، لتضع العالم أمام مسؤولياته الأخلاقية والسياسية والقانونية، ليجلس في مقاعد العدالة الدولية، التي غابت على مدار قرن مضى.

كانت هناك قوانين إنسانية دولية وتشريعات تمنع ارتكاب جرائم الإبادة، التي سادت لقرون طويلة، ذروة هذه القرارات هي اتفاقيات جنيف الأربع، واتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، والتي تمت صياغته عام 1948، لكن ترسانة هذه القوانين والتشريعات لم تمنع ارتكاب جرائم الحرب في ميانمار ورواندا، والبوسنة والهرسك، وكمبوديا ودارفور، ولم تمنع الدول، والقوى العظمى من غزو الدول الصغرى، ورغم أحكام محكمة العدل الدولية في أكثر من واقعة فإن هذه الأحكام لم تبرح دفاتر القضاة، وباتت العدالة الدولية على مر التاريخ أشبه ببحيرة راكدة.

لم يجرؤ أحد على تعليق الجرس في رقبة القط، أو إلقاء حجر في تلك البحيرة، لكن جمهورية جنوب أفريقيا فعلتها، وتقدمت بدعوى قضائية إلى محكمة العدل الدولية، أهم مؤسسة قضائية في الأمم المتحدة، ضد حكومة إسرائيل بتهمة الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني.

الاتهام بالإبادة الجماعية ليس اتهاماً عادياً أن توصم به دولة، فإنها- بعده - تفقد هيبتها الأخلاقية على الساحة الدولية، لا سيما إذا كانت هذه الدولة إحدى الدول الرئيسية المشاركة في صياغة اتفاقية منع الإبادة الجماعية.
ثمة مشهد جديد صورته هيئة محكمة العدل الدولية، في الساعة الواحدة من ظهر يوم الجمعة 26 يناير من عام 2024، التاريخ لن يمر من دون أن يترك بصمته ووصمته.

هنا المفارقة ما بين 14 مايو 1948، تاريخ إعلان قيام إسرائيل، وما بين الحكم الأخير لمحكمة العدل الدولية نتوقف أمام 75 عاماً، كانت قاسية على الشعب الفلسطيني من دون رادع، أو الالتفات لأية اعتبارات قانونية أو إنسانية.

قالت المحكمة كلمتها بكل جرأة، حكومة جنوب أفريقيا أكدت أن قرارات المحكمة تعتبر نصراً عظيماً.
العالم تنفس الصعداء، لاحت في الأفق بوادر عدالة عالمية جديدة، لم تشبه ما قبل الحرب العالمية الثانية، أو ما بعدها.

ارتبكت حسابات الجميع، فقرارات المحكمة جاءت واضحة وقاطعة فيما يتعلق بملف ارتكاب الإبادة الجماعية والتهجير القسري، ومنع المساعدات عن الفلسطينيين، بل زادت من التعقيد أمام إسرائيل بأن أمهلتها شهراً واحداً لتقديم مذكرة ترد فيها على ما جاء من ملاحظات قانونية لقضاة المحكمة، أو مذكرة تدابير للمرحلة المقبلة إذا ما استمرت الحرب.

قبل يوم واحد من قرارات المحكمة كانت هناك وجهات نظر متباينة، لكنها بعد الحكم اصطفت إلى جانب القانون الدولي، وأدرك الجميع أن قرارات العدل الدولية لا بد أن تتحقق على مستوي النظام الدولي، من دون استثناء أية قوة عظمى أو صغرى.

إذن، ما بين بحيرة راكدة للعدالة العالمية، وما بين قرارات المحكمة الأخيرة نجد أنفسنا أمام مشهد جديد، قد يكون حجر الأساس في نظام عالمي مرتقب، يتطلب من شعوب العالم مواصلة إلقاء مزيد من الأحجار في هذه البحيرة، لتفتح أنهاراً جديدة لعدالة دولية، باتت هي الأمل في تحصين خرائط العالم الجديد.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد