: آخر تحديث

اللص الفقير واللص الغني!

13
13
16
مواضيع ذات صلة

القصص والروايات، معظمها من نسج الخيال، والخيال مهما شطح فانه يتغذى من ثمار الواقع، وحتى الخيال العلمي يستند الى ويعتمد على ما وصل اليه العلم من تطور وابتكار. ومادة القصص والروايات هي من تربة الواقع، مهما تباينت صورتها عن جسم الواقع. والقصة اشبه بساعي البريد، يحمل رسائل في مظروف القصة.

قصة قد تبدو بسيطة عادية وحتى أشبه بطرفة، ولكنها ليست مجرد قصة، بل قصة تحكي من بين سطورها قصة اخرى تحمل معاني مقلقة، بل حقائق مخزية وكارثية. إنها قصة سطو على بنك، تستوقف القارئ وتحفز فضوله وتستفز عقله وتجرح جوارحه، إذ أنه بمقدور القارئ أن يستقرأ منها معان تحكي قصة أخرى عن سطو خبيث غدار ذكي، يستمد قدرة سطو اكبر من عملية سطو اصغر… سطو أكبر يتولد من سطو أصغر، إنه جدلية السطو. هذه الجدلية فيها ثقوب عديدة، واهمها أن القضاء قادر على محاكمة ومعاقبة عصابة السطو الصغير، بينما هو عاجز، بعلم او بجهل، عن محاكمة عصابة السطو الكبير. جدلية السطو تغاير الجدلية الطبيعية والفلسفية، إذ ان الذي يتولد، بحكم منهجها، اكبر من امه.. تصوروا، أمٌّ تلدُ ابنًا او بنتًا اكبر منها... هذه منهجية تعجز الفلسفة على استيعابها في فضاء النظريات، ولكن هذه حقيقة دامغة لا يشوبها أدنى شك محشورة في جميع المجتمعات ومنذ نشوء أول مجتمع في التاريخ... ومع تطور المجتمعات تتطور فنون وبشاعة عمليات السطو على ممتلكات وحقوق الغير، وبمساحات بشرية اوسع واشمل.

والقصة أن عصابة من اللصوص في عز النهار تسطوا على بنك وتنهب ما استطاعت عليه من النقود، بعد تهديد الموظفين وارعاب الزبائن وحشرهم في زاويةٍ رهائنَ تحت انظار ومراقبة احد اللصوص. قصة، ليست من نسج الخيال، إذ هي إلاّ من بين الوف القصص الواقعية التي تعرضها السينما العالمية وتتناقلها وسائل الاعلام، وحتى بعض المقالات والدراسات. معظم القصص المعروضة والمتداولة عن السطو واللصوصية تركز على العملية بحدود آلياتها ونتائجها القانونية في حال التعرف على الجناة… لكن قصتنا تروي حكاية أخرى، وهي أهم بكثير من عملية سطو قام بها زمرة من اللصوص.

اللصوص لم يعرفوا كم غنموا من مغامرة السطو، لان كمية النقد كانت كبيرة، وعد النقود في حاجة الى وقت طويل، وكانوا يتابعون قناة الاخبار الرسمية لتبث الخبر عن السطو وعن كمية المال المسروق، وهذا من الإجراءات المعتمدة عند اللصوص المحترفين. فعلًا نطقت الاذاعة الرسمية بخبر السطو قبل موعد الاخبار، وهذا كذلك من الاجراءات المتبعة لدى الاذاعات والاعلام. أفاد الخبر عن عملية السطو والمبلغ المسروق، وبمجرد ان سمع اللصوص الخبر تطايروا من الفرح، وكل عضو في العصابة أخذ يحسب نصيبه المحترم! من الغنيمة. التم اللصوص في مقرهم وافرغوا اكياس النقود والتفوا حولها فرحين مبتهجين بما غنموه من عملية الغزو على البنك، وابتدأوا في العد. صعقتهم الدهشة، واخذوا يعيدون عد النقود مرة اخرى، وازدادت آثار الصعقة في نفوسهم، حتى انهم شعروا بهزيمة مخزية… إن الفارق بين الخبر والحقيقة بون شاسع، إذ يفيد الخبر عن مبلغ يساوي أضعاف المبلغ المسروق، إذ المبلغ المسروق 20 مليون دينار، ولكن الخبر الرسمي والمعتمد يفيد بأن المبلغ 80 مليون دينار!!!… كيف يمكن لهذا أن يحصل، إذ لا يمكن أن يكون القائمون على البنك قد أخطأوا الحساب، ولا يمكن أن يفهم من هذا التباين بين المبلغ الحقيقي والمبلغ المعلن الرسمي سوى شيء واحد، وهو خيانة الأمانة في بيت البنك نفسه، واصابع الاتهام تصوب الى من بيده الامانة، ولكن هيهات ان تعرف الحقيقة، لان الذي عنده الحقيقة ليس في مصلحته ان يخدم القانون ويساهم في تقديم جناة الخيانة امام القضاة، وهكذا تمر الخيانة بسلام يطمئن لها ومنها الخائن… والخيانة أشد جرمًا وأعمق جرحًا في بنية الاخلاق من السرقة المجردة، وكأنه العزاء لعصابة اللصوص، إذ شعروا، رغم الهزيمة، أنهم أكثر اخلاقية من مسئولين محترمين!!! يتربعون على عرش الادارة وبيدهم وتحت تصرفهم أمانة الناس وحتى جزءًا من امانة الوطن. للخيانة ابواب عديدة واسعة وهي المنفذ والمدخل الى مزبلة الفساد، وكل فساد خيانة، وكل خيانة جريمة وفساد. شعرت عصابة اللصوص بهزيمتها امام عصابة أقوى واكثر كفاءة منها في فنون وإدارة عمليات السطو واللصوصية.

اللص بتاثير الحاجة والاضطرار، ليس بالفعلة او بالضرورة مجرمًا، فهناك قصص كثيرة تتحدث عن اللص الشريف واخلاق اللصوص، ومن تلك القصص عن لصوص في الحضارة الاسلامية والذين «حرموا على انفسهم سرقة ممتلكات الأسخياء والفقراء والنساء والجيران، واستحلوا أموال مانعي الزكاة والذين تراكمت ثروتهم بفعل الظلم»، وهذا مبدأ بعض من الناس ممن اضطرتهم الحاجة الى السرقة، وغني عن القول بخصوص النقيض.

لا شك أن كل من يتطاول ويتجرأ بأخذ ما ليس له فيه حق فهو لص، كان من كان هذا الانسان بغض النظر عن موضعه الاجتماعي او مركزه الاداري والوظيفي او دوره المهني. ومن أشَرِّ وأقبح انماط السطو على حقوق الغير هو ما يقوم به أولئك القادرون (غير المحتاجين) والذين يستغلون وظائفهم ومراكزهم الادارية، او أولئك الذين يجيزونَ بفقهِ القوةِ السطوَ لأنفسهم بما ليس لهم فيه حق...

اللصوصية، ناخذها من أقصى طرفيها، فهي إما من محتاج مضطر او فقير مسكين لا حول له ولا قوة سوى إغفال صاحب الحاجة والتي هو في حاجة اليها والسطو عليها، وهو سطو المضطر، وهي اللصوصية الصغيرة او الهزيلة التي يطال القضاء معظمها. أما اللصوصية في الطرف الاقصى الأٌغر فهي ارضاء لجشع وصل حد الادمان على توسيع نطاق الثروة وتراكم المال، وهي اللصوصية الكبيرة او الجبارة، وتجمع من السرقة تحت عباءتها المحترمة! حاجة الوف من الناس، ووسائلها ناعمة نعومة رسم القلم... وفي هذا الطرف الاغر مربض الخيانة والفساد الذي يستحيل أن يطاله القضاء إلاّ فيما ندر.

عندنا مثل شعبي سائد عن السرقة، والمثل بمكانة النصيحة، وهي نصيحة ابليس للانسان: «إذا اردت أن تسرق، فلا تنجس يدك بأقل من المليون»... طبعًا ليس بقادر أن يسرق المليون إلا من كان يعيش في أجواء المليون، والسرقة درجات تتناسب مع الطبقة الاجتماعية… اللص الغني واللص الفقير!!!


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد