محمد طيفوري
ستجد الدول في السنوات القليلة المقبلة نفسها مرغمة على مراجعة جذرية لسياساتها الدفاعية القائمة حاليا على مراكمة الأسلحة؛ بالحصول على أحدث ما جادت به الصناعات العسكرية في الأسواق العالمية، قصد ضمان ترتيب جيد لجيوشها ضمن قائمة أقوى الجيوش على الصعيد الدولي. فالوقائع التي عشنا على وقعها منذ بداية الألفية الثالثة كشفت عن اتجاه لإحداث انقلاب جذري في معايير تصنيف الدول من زاوية القوة العسكرية.
أضحى ما كنا نعتبره حتى الأمس القريب من بنات أفكار المبدعين والمخرجين السينمائيين حقيقة نعيش تفاصيلها اليوم؛ وغذا بشكل أقوى وأكبر. تدريجيا تحولت معارك الفضاء الافتراضي إلى جزء أصيل من العالم الواقعي الذي نحيى فيه، فلا يمر يوم دون أن نسمع نبأ هجوم أو اعتداء في هذا البلد أو ذاك، لدرجة لم تعد هذه الأخبار محط اهتمام ومتابعة من لدن الرأي العام، ما لم يكن وقعها وأثرها قويا.
لكن الأكيد أن أحداث العالم الإلكتروني بمستجداته المتسارعة تتجه بثبات نحو صدارة الاهتمام الدولي، خاصة أن البنى التحتية الحيوية لعمل الدولة "المواصلات، المصارف، الأمن، المياه، الطاقة، الصحة..." كلها باتت تعتمد على المجال الافتراضي بشكل مباشر أو غير مباشر.
وبذلك يتجسد من الناحية الواقعية مجتمع القرية الكونية، من خلال فضائها الافتراضي المنفتح الآفاق، والذي يضع الإنسان في عالم رقمي مختلف من حيث أسسه وخصائصه وقيمته الجديدة؛ فالحديث هو بروز العالم الافتراضي كمساحة مكانية وزمانية أضحت كما الأرض الجديدة، حيث هرعت إليها رؤوس الأموال والحركة الثقافية والعلمية المعاصرة، ومظاهر التسلية، وكذلك الجريمة.
حيز افتراضي
فرضت النقلة النوعية التي يشهدها الفضاء الإلكتروني إعادة النظر فيه، بعدما أصبحت الشبكة العنكبوتية ساحة للنزاع والصراع يدخل في سياقها التجسس والاختراق والتحكم في قواعد بيانات قد تمس الأمن القومي والحيوي لهذه الدولة أو تلك. وفي ضوء سيرورات هذه التطورات المتلاحقة في هذا المجال، شرعت معظم الحكومات بوضعه في مكان متقدم من قائمة أهدافها وأولوياتها الاستخبارية ونشاطاتها الوقائية.
بالعودة إلى تعريف الاتحاد الدولي للاتصالات؛ وهي وكالة الأمم المتحدة المتخصصة في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، للمجال الافتراضي نجده يحدده بقوله "الحيز المادي وغير المادي الذي ينشأ أو يتكون من جزء أو كل العناصر التالية: حواسيب، أجهزة ممكننة، شبكات، معلومات محوسبة، برامج ومضامين، معطيات مرور ورقابة، والذين يستخدمون كل ذلك". هناك من يعرف المجال الافتراضي بأنه ساحة الحرب الخامسة، بعد البر والبحر والجو والفضاء الخارجي. خلافا لهذا التعريف الذي يرى الحيز الافتراضي كبعد أو مجال خامس، هناك توجه يعُده واحدا من المجالات السبعة، إلى جانب كل من الجو والفضاء والبحر والحيزين الإلكترو-مغناطيسي والإنساني.
يتجه العالم نحو حروب المجال الخامس، فالإجماع منعقد لجهة اعتبار الفضاء الافتراضي بات يعتبر مجالا خامسا للحروب بين الدول، بعدما عرف العالم عبر التاريخ الحروب البرية والحروب البحرية، وحديثا الحروب الجوية، وحديثا جدا حرب الفضاء، ليستقر حاليا عند حرب الإنترنت.
حرب هجينة
تضع الحروب الإلكترونية الحديثة قطيعة مع تراكمات تاريخية ضاربة في القدم، رافقت الإنسانية عبر تاريخها الممتد حول الحرب "القوانين، الفنون، والقواعد..."، معلنة إفلاس منطق الحشود والعدة والعتاد... وهلم جرا من الضوابط التي تؤطر الحرب كواحدة من أعرق الظواهر البشرية على مر التاريخ.
إطلاق هجوم إلكتروني أو إشعال فتيل حرب ناعمة، لا يتطلب الشيء الكثير؛ إذ يكفي جهاز حاسوب وشبكة للإنترنت ومخترق أو ما يعرف في الهاكرز. إنها بداية أفول حقبة الأرقام الضخمة في تركيبة الجيوش ومعداتها، إذ بهذه الآليات البسيطة يستطيع أي "مقاتل إلكتروني" (هاكرز) التأثير في "العدو" والرد عليه، بلا تكاليف كبيرة؛ إذ بإمكانه إلحاق أضرار بمصالح الأفراد والمؤسسات والدول عبر اختراق المواقع الإلكترونية الحيوية وتعطيلها.
ثمة تطورات ألقت الضوء على هذا المجال الجديد نسبيا، ولا سيما بعد الهجمات الإلكترونية التي همت مناطق من العالم في السنوات الأخيرة. حيث بدا المجال الافتراضي بمنزلة ساحة قتال جديدة، تشكل تهديدا يضاف إلى قائمة التهديدات التقليدية التي تواجه العالم، وتتجاوز في أبعادها وآثارها الحدود الجغرافية والسياسية، وتلقي بتداعياتها على مستقبل الأمن القومي والحيوي للدول. وأصبحت عمليات الاختراق التي تشكل أساس هذه الحرب الهجينة قادرة على إغراق أجهزة الحواسيب برسائل من أنظمة متعددة تشل سير عملها وتوقف نظم الإنتاج.
على غرار تقنيات الحروب التقليدية، يمكن للمحارب في الحرب الإلكترونية أن يلجأ إلى واحدة من صور عديدة نذكر من بينها: الحصار الافتراضي VSIB؛ ومن خلاله يعمد إلى إحداث خلل أو تمزيق في آليات سريان العلميات التقليدية، مع إيقاف مؤقت لكافة العلميات ذات الصلة بهذه الخدمات المستهدفة. أو تفجير علبة الرسائل Email Bomb بإرسال عدد هائل جدا من الرسائل إلى العنوان الإلكتروني، ما يؤثر في قدرته على تلقي الرسائل والتعاطي معها. أو عمليات الاختراق بالدخول غير المشروع للمواقع أو اختراق الحواسب واستبدال معلومات الموجودة بأخرى حديثة، وتغيير أقنان الدخول وشفرات التحكم.
خطر متنامٍ
جاءت عمليات الفضاء الإلكتروني كأحد تجليات فصول الثورة المعلوماتية، وهنا وجب التنبيه إلى أن الأمر في بداياته مجرد لعب أو بتعبير أحدهم نزعة فضولية للوصول إلى معرفة جديدة، أو تحدي العقبات الأمنية التي تضعها الجهات الأخرى لغرض الإحساس بنشوة النصر. قبل أن يتحول ينقلب الأمر إلى احتضان وتوجيه لأهداف هذه العمليات صوب استثمار هذه القدرات وترجمتها إلى مكاسب مادية أو سياسية موجهة.
كانت تسريبات "ويكيليكس" أول عاصفة إلكترونية جامحة يعرفها العالم المعاصر، بالنظر لآثارها الممتدة على نطاق واسع. بالموازاة معها أثير النقاش من عدة قضايا ذات صلة بالمسألة. تتعلق واحدة منها بالمعركة حول حرية المعلومات حول العالم، وما رافق ذلك من عودة قوية لجيوش الأنونيموس Anonymous. وتدعو الثانية الدول إلى إعادة صوغ النظرية الأمنية لها حتى تتوافق مع التحديات الكبرى التي تطرحها مخاطر الحيز الافتراضي. أما الثالثة فتطرح مسألة إقامة فرق عسكرية؛ أو بعبارة أخرى جيوش متخصصة في الحروب الإلكترونية، تعمل على مواكبة ورصد المجال الخامس بكل مستجدات متلاحقة. وتنبه الرابعة المنتظم الدولي إلى التفكير في بلورة أطروحة متكاملة حول السلم والأمن الإلكتروني، ولم لا التفكير في قوات أممية لحفظ السلام الإلكتروني على غرار أصحاب القبعات الزرق، فلا شك أن الحروب الهجينة التي ستكون الإنسانية معها في المستقبل ستجعل الأمن الإلكتروني أعز ما يطلب.