عام مضى على حرب تعد الأخطر بتاريخ أوروبا في هذا القرن حيث لا يوجد أي انفراجة لها بل زادت تعقيداً مع استمرار فرض عقوبات على موسكو من قبل داعمي أوكرانيا من دول أوروبا وحلفائهم بقيادة أميركا حيث تخطى عدد العقوبات حاجز الـ11 ألف عقوبة ورغم أن الاقتصاد الروسي انكمش بأكثر من 2 بالمائة إلا أن ذلك لم يؤثر على إصرار القيادة الروسية بأن الحرب ماضية لتحقيق أهدافها, وبالمقابل فإن الدعم الغربي لأوكرانيا مستمر مالياً وكذلك بالأسلحة وكافة سبل الدعم لكي تستمر بالدفاع عن سيادتها لكن هل الفاتورة لهذه الحرب اقتصر دفع ثمنها على أطراف النزاع؟ الحقيقة أن الاقتصاد العالمي تضرر كثيراً ودول نامية عديدة لحقتها تبعات هذه الحرب من تضخم وكذلك تراجع بقيمة عملاتها وضغوط اقتصادية قد لا تتمكن من تحملها لوقت طويل إذا استمرت الحرب.
ففي الهند التي تترأس قمة مجموعة العشرين للدورة الحالية اجتمع وزراء المالية ومحافظو البنوك المركزية للمجموعة لمناقشة ماهو مطروح على أجندة القمة والملفت كان هو تصريح وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت بلين التي رأت بأن إنهاء هذه الحرب هو الأمر الأكثر أهمية للاقتصاد العالمي وقالت «هذه الحرب لها آثارها الأكثر تدميرًا في أوكرانيا، لكن استخدام بوتين للغذاء والطاقة كسلاح أضر بالدول النامية وأدى إلى رياح اقتصادية عالمية معاكسة أضرت بكل دولة ممثلة في هذه الغرفة»، فالرسالة الغربية واضحة بأن كل ما يحدث من ضرر حالي بالاقتصاد العالمي تتحمله روسيا بشنها لهذه الحرب, بينما الحانب الروسي يرى بأن أمنهم القومي تهدد ولم يؤخذ بعين الاعتبار من قبل دول حلف الناتو ولذلك يبررون حربهم بأنها ضرورة, إلا أن الواقع يقول إن الموقفين متشنجان وكل طرف استخدم مالديه من أوراق لكي يحقق هدفه, فالغرب يريد خسارة روسيا للحرب وبالتالي يضعف دورها وتأثيرها العالمي وقد يؤدي لانكفائها على نفسها دون أن يكون هناك انهيار فيها كما عبر عن ذلك أكثر من مسؤول أوروبي بينما موسكو تريد أن يرضخ الغرب لمطالبها في حماية أمنها القومي واحترام مصالحها ولذلك لم يجد الطرفان أي نقطة التقاء بينهما فيما دفع العالم ثمن هذه المواقف المتباعدة بين الطرفين بارتفاع في التضخم ومشاكل تأخر وانقطاع أحياناً بسلاسل الإمداد ولذلك فإن أغلب السياسات النقدية المتشددة التي اتخذتها البنوك المركزية الكبرى في أميركا والاتحاد الأوروبي لم تثمر عن الأهداف المرجوة منها فالأزمة التي يواجهها العالم معقدة ويغلب عليها التأثير الجيو سياسي.
فخبراء الاقتصاد في أميركا يعتقدون أن إصرار الفيدرالي الأمريكي على رفع أسعار الفائدة المستمر دون رؤية واضحة لنهاية هذه الارتفاعات قد يسحق الاقتصاد كما وصف ذلك الخبير العالمي محمد العريان، فالأزمة التي خلفتها هذه الحرب بدخولها عامها الثاني تكبر ولا تصغر بل إنها وضعت تلك البنوك المركزية الكبرى في موقف حرج زعزع الثقة بقراراتها وقراءاتها للمشهد الاقتصادي، فيبدو أن هذه الحرب دخلت مرحلة «كسر العظم» وهو ما سيربك صانعي السياسة النقدية بأوروبا وأميركا أكثر, فالعقوبات ستتشدد وهو ما يهدد خططهم لمكافحة التضخم والدعم العسكري والمالي سيزداد من الغرب لأوكرانيا مما يعني المزيد من التصعيد العسكري فالرسالة أوصلتها أميركا بالزيارة غير المعلنة من الرئيس بايدن لكييف حيث يركزون على إيقاع أكبر ضرر بالاقتصاد الروسي الذي وجد أسواقاً أخرى لنفطه وغازه في آسيا لكن كل ذلك لا يعني نهاية لتجاوز العقوبات فالتقنية التي يمتلكها الغرب للكثير من استخدامات قطاعات روسية عديدة قد تؤثر مع انقطاعها والتحول لغيرها على روسيا في تشغيل اقتصادها وقد يكون هو الرهان الأكبر للغرب بخلاف التضييق عليها في العديد من المجالات بينما يعد ملف الطاقة هو الأكثر إيلاماً لأوروبا تحديداً, فتعويض الطاقة من روسيا مازال بمرحلة الإجراءات الطارئة وبتكاليف عالية وقد تتفاقم الأزمة بالشتاء القادم كما صرح بذلك مدير وكالة الطاقة الدولية فالعالم أمام مشهد جديد من الأزمة والتي ستتفاقم إذا استمرت دون حل فلا سبيل لإنهائها وفق أي مبادرات طرحت من دول عديدة خارج هذا النزاع مالم يقبل الطرفان تحديداً روسيا وأميركا بالحوار البنّاء والوصول لحل يحقق مصلحة كل الأطراف وإلا فإنها لن تتوقف إلا بهزيمة لأحدهم وبعدها قبول بالأمر الواقع بخلاف الخوف من توسعها لتشمل دولاً أوروبية أخرى وبذلك تتحول لحرب عالمية ثالثة قد تستخدم بها أسلحة غير تقليدية.
هذه الحرب التي أتت بعد أزمة كورونا هي المسيطرة على أكبر المؤثرين سلباً على الاقتصاد العالمي والإشكالية أنها تتخطى بأهداف كل طرف حدود النزاع ومسبباته إذ أن عالماً يولد من جديد بنظر كل طرف ولذلك هم يتحملون تبعات هذه المرحلة التي يرونها مؤقتة إلا أنها ستنقلهم لمرحلة دائمة تتحقق فيها أهدافهم البعيدة فإذا انتصرت روسيا فإنها بذلك ستعود قطباً عالمياً واسع التأثير وإذا انتصر الغرب بقيادة أميركا فإنهم سيستمرون بامتلاك مفاتيح الهيمنة والقوة عالمياً وهو ما سيسهل عليهم مواجهة الصين والحد من نفوذها الاقتصادي الذي يتوسع عالمياً ووصل كافة القارات بعد أن يتم تحييد روسيا إذا خسرت معركتها في أوكرانيا.