الجميع في إيران على قائمة الانتهاكات، على مدار ستة أيام تندلع الاحتجاجات في البلاد بعد أن توفيت مهسا أميني التي كانت تحتجزها شرطة الأخلاق الإيرانية، وبقي آلاف في الشوارع يهتفون من أجل حقوقهم مرددين هتافات "الموت للديكتاتور"، في إشارة إلى المرشد الإيراني علي خامنئي.
بالنسبة إلى عديد من الإيرانيين، بخاصة النساء، بدت مهسا تجسيداً لمعاناتهم وقمعهم وحرمانهم من العدالة. ورغم كون الاحتجاجات الأخيرة ضمن سلسلة احتجاجات تشهدها إيران في السنوات المنقضية، فإنه يمكن القول إن لاحتجاجات الحجاب في إيران كثيراً من الدلالات تدفع للتساؤلات، هل يمكن أن تكون المرأة الإيرانية هي القوة الدافعة لتغيير نظام قمعي استمر منذ أكثر من 40 عاماً؟ ولماذا تتلقى هذه الاحتجاجات الزخم والدعم عن غيرها من الاحتجاجات الأخرى؟ وهل يمكن أن يستجيب النظام الإيراني للضغوط في سبيل توسيع هامش حرية المرأة سواء كانت هذه الضغوط داخلية أم خارجية؟ وهل يشكل مقتل الشابة أميني رمزاً لنضال المرأة الإيرانية وعلامة فارقة في تحول الاحتجاجات إلى حركة اجتماعية نسائية تنتزع حقوق وحريات للنساء؟
في ظل الاضطرابات أحرقت نساء حجابهن في الشارع، في لفتة رمزية ضد سياسة الحجاب الإلزامية للجمهورية التي أودت بحياة مهسا، كما أظهر بعض مقاطع الفيديو المحتجين وهم يهرعون إلى سيارات الشرطة ويقلبونها مرددين هتافات "وحدة وحدة من كردستان إلى طهران" و"العدل، الحرية، المرأة" و"لا للحجاب القسري".
تشير احتجاجات الحجاب إلى كيفية تحول احتجاجات اجتماعية إلى سياسية مرددة هتافات ضد رأس النظام الإيراني، ووجدت الاضطرابات صداها بدليل مهاتفة الرئيس الإيراني لأسرة الفتاة والتوعد بالتحقيق في القضية.
القضية الرئيسة هي وضع المرأة في إيران الذي تدهور منذ تأسيس النظام الإيراني الحالي، إذ سنت قوانين تحدد القواعد الصارمة للباس المرأة، وتحديد سن الزواج من تسع سنوات قبل رفعه إلى 13 سنة.
منذ ثمانينيات القرن الماضي تم اعتقال عدد من النساء، ثم تعرضن للضرب أو حتى الموت في مراكز الاحتجاز لمخالفتهن قوانين الحجاب الإيرانية أو القواعد المماثلة، لكن أياً من هذه القضايا لم يجذب مستويات الاهتمام التي شوهدت الأسبوع الماضي بعد مقتل مهسا أميني.
تعاملت إدارات مختلفة في الجمهورية الإيرانية مع تطبيق قوانين الحجاب بشكل مختلف، فقد امتنع الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي المدافع عن الحريات المدنية عن التدخل في قضايا نمط الحياة، وخلال فترة ولايته في أواخر التسعينيات كان هناك تسامح أكثر بشكل ملحوظ مع الخيارات الشخصية للمرأة.
لكن يعود الفضل إلى الرئيس المتشدد محمود أحمدي نجاد في زيادة تأكيد قواعد الملبس بعد أن أرسل توجيهاً إلى عدد من الوكالات الحكومية في يناير (كانون الثاني) 2006 لتشديد اللوائح بشكل ملحوظ. وكجزء من التوجيه، تم تكليف المجلس الأعلى للثورة الثقافية وقوات الشرطة ووزارة الثقافة ووزارة التربية والتعليم والمنظمة الإسلامية للتنمية، بمسؤوليات مختلفة لتعزيز الحجاب وفرضه.
في يوليو (تموز) الماضي أصبح مشهد دوريات شرطة الأخلاق مألوفاً في شوارع طهران، إذ لا يتم التأكد فقط من التزام ارتداء الحجاب، بل وتوقيف أية امرأة للتأكد من عدم وجود سجل مخالفات أخلاقية عليها.
المشهد المعتاد في شوارع إيران هو اقتياد النساء إلى شاحنات "دورية الأخلاق" وتعرضهن للضرب، أو محاولة النساء الهرب من تلك الشاحنات. وعمل إبراهيم رئيسي على اتباع استراتيجية نشر ثقافة العفاف التي نشطت معها أعمال شرطة الأخلاق، وكان مقرراً التنفيذ على مراحل بدأت في يوليو الماضي من خلال المراقبة الملموسة وغير الملموسة، حيث يقوم مفتشون بزيارة المؤسسات والإدارات الحكومية والإبلاغ عن انتهاكات قوانين الحجاب الإلزامي، وما إذا كانت الموظفة ملتزمة بارتدائه وفق القانون، وإلا يتلقى رئيسها تحذيراً إذا لم تلتزم القانون، وفي حال تكرار المخالفات يتم فصل الرئيس من العمل.
تستمر الاحتجاجات على وسائل التواصل الاجتماعي، إذ انضم عدد من النساء إلى حملة لحرق الحجاب أمام الكاميرا، وقامت بعض النساء الأخريات بقص شعرهن احتجاجاً على فرض الحجاب على النساء، بينما حلق الرجال لحاهم.
الأمر يتجاوز تقييد حقوق المرأة في ما يخص فرض وإلزامية الحجاب، بل تعداه إلى اعتباره شرطاً أساسياً لالتحاق أية فتاة بالمدارس الابتدائية أو الحصول على عمل. كما تم سن قانون منذ عام لتشجيع زيادة السكان يتناقض مع حقوق المرأة الجنسية والإنجابية، إذ وافق مجلس صيانة الدستور الإيراني على مشروع قانون "تجديد شباب السكان ودعم الأسرة، الذي يحظر الإجراءات الطبية الطوعية التي يمكن للمرأة الخضوع لها لتجنب الحمل. ومن المفارقات أنه رغم كون المرأة تشكل نحو نصف الهكيل الطلابي فإن القوة العاملة من النساء لا تتجاوز 15 في المئة. وهناك كذلك الحظر المفروض على النساء في الملاعب الرياضية، وهو رمز لقمع النساء في جميع أنحاء البلاد. وتواجه المرأة تمييزاً في قضايا مثل الزواج والطلاق وحضانة الأطفال.
أصبح الحديث عن مدى ضرورة إلزام المرأة ارتداء الحجاب يدور بين كثير من السياسيين من التيارين المتشدد والإصلاحي، لكن كان لصادق لاريجاني رئيس القضاء عام 2018 رأي في "دورية الأخلاق"، إذ قال إنه "يجب ألا تتراجع الشرطة ولو خطوة واحدة وإلا سينهار كل شيء".
تصريح لاريجاني يوحي بوجهة نظر النظام الإيراني في الحجاب، إذ يعتبر أن تغطية شعر المرأة والتزام قواعد اللباس أساس تقوية النظام، لماذا؟ لأن النظام الإيراني منذ نشأته أسس شرعيته بالاعتماد على أمرين أساسيين، الأول الخطاب العدائي مع الولايات المتحدة وإسرائيل، والثاني تطبيق قواعد الشريعة الإسلامية من وجهة نظرهم. ومن ثم فإن أي تراجع في شأن هذين الأمرين سيجعل النظام القائم لا يختلف عن نظام الشاه.
ولا يتوقع أن يتراجع النظام الإيراني في شأن إلزامية الحجاب، كما لا يتوقع أن تقوم الحكومة الحالية وفي ظل سيطرة المتشددين على مقاليد السلطة بالتراجع عن المظاهر الشكلية لتطبيق الشريعة، لكن في الوقت نفسه من غير المرجح أن تحصل المرأة الإيرانية على الحقوق والحريات التي تنشدها، في ظل حكومة ما يعرف بالإصلاحيين أو المعتدلين، وربما يخفت مشهد مطاردة السيدات في الشوارع، لكن لن تمنح الحرية للمرأة حق الاختيار في شأن ارتداء الحجاب من عدمه.
في الوقت ذاته فإن احتجاجات الحجاب الأخيرة تشير إلى أن مقتل أميني أصبح دلالة وعلامة على القهر والقمع الذي تتعرض له المرأة حتى الموت، ومن ثم من المرجح استمرار تلك الاحتجاجات على العكس من الاحتجاجات الأخرى الفئوية، أو التي اندلعت لأسباب اقتصادية، أو بسبب الجفاف ومشكلات الأنهار في بعض المحافظات، فقد يستطيع النظام الإيراني في حال تم رفع العقوبات أن يشعر المواطن ببعض التحسن الطفيف في الاقتصاد، أو أن يقدم دعماً للفئات محدودة الدخل، لكنه لن يقوم بتوسيع هامش حرية المرأة، ومن ثم يتوقع استمرار الحركات الاحتجاجية المرتبطة بحقوق النساء في إيران، وهو ما يحتاج إلى دعم من المجتمع الدولي على غرار كثير من الحملات الدولية المناصرة لحقوق المرأة، أو أن تستمر الاحتجاجات التي وقودها المرأة والرجال المتضامنون معها، وكذلك المواجهات بين الشرطة والمحتجين لتكون المرأة بعد 40 عاماً من عمر النظام هي رافعة التغيير في إيران، إذ إن هناك فئات في المجتمع أصبحت أقل دعماً لفرض الحجاب وفقاً لاستطلاعات الرأي.
في 12 يوليو الماضي وهو اليوم الوطني للحجاب والعفة حث نشطاء حقوقيون إيرانيون النساء على خلع الحجاب في الأماكن العامة، وعلى إثر الدعوات واجهن الاعتقال بتهمة انتهاك قواعد اللباس الإسلامي.
قضية الحجاب في إيران والاحتجاجات المرتبطة بها ومقتل أميني تلقي الضوء على جهود النظام الإيراني لفرض التزام الحجاب ضمن حملة تضييق على المعارضة، وتأتي في وقت تشهد إيران غضباً متزايداً بسبب الصعوبات الاقتصادية في الداخل.
تخشى السلطات الإيرانية من الضغوط والاحتجاجات الداخلية التي أصبحت تتداخل مع بعضها بعضاً، فهناك احتجاجات المعلمين والمتقاعدين والعمال والموظفين الحكوميين على عدم دفع الأجور وانخفاض الدعم والتضخم والبطالة، فضلاً عن الجفاف وتحول مسار الأنهار في بعض محافظات الأقليات وعدم كفاءة الحكومة والفساد. ومن ثم قد تتسع وتتشابك الحركات الاحتجاجية التي قد تطالب بتغيير النظام السياسي، ومع تهميش كل المعارضة بشكل أساسي، أصبحت هذه الاحتجاجات أكثر عفوية، وقد تكون في نهاية المطاف أكثر صعوبة في إدارتها.