للوهلة الأولى اعتبر كثيرون أن انسحاب الكتلة الصدرية (73 نائباً) من البرلمان العراقي، بتعليمات من زعيمهم مقتدى الصدر، ستكون له نتائج إيجابية على العملية السياسية المعقدة وإنهاء ما عُرف ب «الانسداد السياسي» الذي أعاق على مدى شهور، انتخاب رئيس جديد للجمهورية واختيار حكومة جديدة. هذا التوقع كان مرجعه أن النواب البدلاء الذين أخذوا مقاعد النواب الصدريين ينتمون في أغلبهم إلى منافس الصدر في «البيت الشيعي»، أي «الإطار التنسيقي». لكن ما حدث جاء على العكس تماماً حيث تأكد أن التنافس بين قادة هذا الإطار أقوى من كل حوافز التعاون، إذ لم ينجحوا طيلة هذه الأسابيع التي مضت منذ انسحاب الصدريين من البرلمان لا في انتخاب رئيس للجمهورية ولا في اختيار رئيس مقبول للحكومة الجديدة.
لكن تبقى العقبة الأهم وهي صراعاتهم البينية على اسم رئيس الحكومة الجديد والنائب الأول لرئيس البرلمان، بسبب تطلع عدد من قادة «الإطار التنسيقي» للترشح لمنصب رئيس الحكومة وعلى الأخص نوري المالكي، الأمر الذي فاقم من أزمة «الإطار التنسيقي» وحال دون التمكن من الوفاء بالمواعيد التي يجري تحديدها لإعلان اسم المرشح المتفق عليه لرئاسة الحكومة.
المرجح أن الفشل سيتفاقم في ظل متغيرين جديدين؛ أولهما، التداعيات التي أخذت تتصاعد إثر ما جرى تسريبه من تسجيلات صوتية منسوبة إلى المالكي ربما تقوده إلى المحاكمة إذا سارت الأمور على النحو المأمول بهذا الخصوص. ثانيهما، القوة الدافعة التي حصل عليها مقتدى الصدر عقب النجاح «المبهر» لصلاة الجمعة الموحدة التي دعا إليها يوم الجمعة الفائت في مدينة الصدر، وهي القوة التي جعلته يغيّر موقفه من تسريبات المالكي، وربما تدفعه إلى النزول بجماهيره في مليونيات يمكن أن تقتحم المنطقة الخضراء كي تضع قادة «الإطار التنسيقي» في مواجهة مباشرة مع الشارع العراقي.
المشهد تتكثف معالمه إذا قارنا حال الأزمة قبل هذين المتغيرين وبعدهما. ففي خطاب عيد الأضحى المبارك كان قيس الخزعلي زعيم «عصائب الحق» المكون الرئيسى في «الإطار التنسيقي»، أكثر تفاؤلاً بحال ما بعد انسحاب الصدريين من البرلمان، واعتبر أن هذا الانسحاب «ولّد أفقاً جديداً لكسر الانسداد السياسي وتشكيل الحكومة الجديدة»، وقال «نعمل على ألا يتعطل تشكيل الحكومة أكثر من ذلك، وهناك فرصة حقيقية لتشكيلها»، لكن لم تتحقق هذه التوقعات المتفائلة، إذ لم يستطع «الإطار التنسيقي» تنظيم اجتماع لهذا الغرض قبل يوم الجمعة الماضي، موعد صلاة الجمعة الموحدة التي رتبها الصدر. وبعد النجاح الذي حققته هذه الصلاة اجتمع قادة «الإطار التنسيقي» في ذات اليوم للتباحث بشأن انتخاب رئيس الجمهورية الذي سيكلف بدوره مرشح الكتلة البرلمانية الأكبر لتولي منصب رئيس الوزراء. وذكر بيان عقب الاجتماع أن «الإطار التنسيقي أقر انعقاده الدائم في جلسة مفتوحة (هذا الأسبوع) لغرض استكمال الاستحقاقات الدستورية»، ووجه طلباً إلى الأطراف الكردية بتكثيف حواراتها والاتفاق على شخص رئيس الجمهورية أو آلية اختياره، قبل عقد جلسة مجلس النواب للإسراع في استكمال متطلبات تشكيل الحكومة.
وكان رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي دعا في ذات اليوم القوى السياسية إلى حسم الحوارات للمضي بانتخاب رئيس الجمهورية، وقال في بيان «مع انتهاء العطلة التشريعية للفصل الأول لمجلس النواب وعطلة عيد الأضحى المبارك وبدء الفصل التشريعي الجديد، أدعو الأخوة والأخوات رؤساء القوى السياسية والكتل النيابية إلى تحمل المسؤولية وحسم الحوارات للمضي بانتخاب رئيس الجمهورية». وكشف القيادي في حركة «عصائب الحق» نعيم العبودي عن قرب تسمية رئيس الوزراء، وقال «إن المعلومات التي رافقت اجتماع الإطار التنسيقي جاءت إيجابية، والأمور ماضية باتجاه الحسم خلال 48 ساعة حول شخصية رئيس الوزراء».
لم يحدث شيء من ذلك، والعكس هو الذي أخذ يفرض نفسه، والأزمة تزداد تعقيداً في ظل المتغيرين المشار إليهما مع تداعي التطورات ومن أبرزها عودة مقتدى الصدر للتشدد إزاء تسريبات نوري المالكي بحقه وبحق العراق وأطراف عراقية مهمة منها المرجعية العليا، إضافة إلى تفاقم الخلافات والخصومات الشخصية بين قادة «الإطار التنسيقي» التي لا تزال تحول دون الاتفاق على مرشح واحد لمنصب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، حيث يطرح كل من عمار الحكيم زعيم تيار «الحكمة» وحيدر العبادي زعيم «تيار النصر» رؤية تختلف عن رؤى بقية قادة «الإطار التنسيقي»، وسط ترجيحات تتزايد بخصوص احتمالات انسحابهما من «الإطار التنسيقي».
هذا يعني أن الأزمة باتت متأصلة داخل «الإطار التنسيقي»، لكن الأهم أن مقتدى الصدر الذي لم يعر اهتماماً في أول الحدث لتسريبات المالكي عاد ليطالب المالكي باعتزال العمل السياسي وتسليم نفسه ومن يلوذ به من الفاسدين إلى الجهات القضائية «لعلها تكون بمثابة توبة له أمام الله وأمام الشعب العراقي». مطالب من شأنها مفاقمة الأزمة، ليس بين التيار الصدري و«الإطار التنسيقي» فحسب، بل أيضاً داخل «الإطار التنسيقي» نفسه، الأمر الذي يعني أن أزمة العراق ستبقى ممتدة ومرشحة للتداعي.