: آخر تحديث

حروب الغذاء وسلاح المجاعة

61
49
69
مواضيع ذات صلة

في كتاب للعالِم الاجتماعي جاسبر بيكر عنوانه «الأشباح الخائفة»، يتحدث عن المجاعات التي تضرب الإنسانية من وقت لآخر ودور الإنسان في صناعتها. يبين الكتاب أن الأسباب الحقيقية للمجاعة ليست طبيعية إلا فيما ندر وبصورة محدودة ومؤقتة كالجفاف أو الفيضان الذي يجرف الأراضي الزراعية. أما المجاعات الكبرى والحقيقية فهي من صنع الإنسان. ومنها المجاعة التي أعلنت عنها الأمم المتحدة والتي تعرّض 20 مليون إنسان للموت جوعاً في أربع دول فقط هي الصومال واليمن ونيجيريا (شمال شرق البلاد) وجنوب السودان. وفي كل دولة من هذه الدول توجد حروب أهلية داخلية هي التي تتسبب في عدم إنتاج المواد الغذائية وحتى في عدم وصول المساعدات الإنسانية إلى المحتاجين إليها.
والمجاعة الحالية في هذه الدول الأربع التي وصفتها الأمم المتحدة في تقريرها بأنها أكبر مأساة إنسانية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945، ليست الأولى من نوعها. هناك سلسلة من المجاعات قضت على عدد أكبر من ملايين البشر، لعل أبرزها:
أولاً: ثورة بول ابوت في كمبوديا، والتي أدت إلى موت 1,2 مليون إنسان جوعاً.
ثانياً: حركة الانفصال في بيافرا (جنوب نيجيريا) بين عامي 1969 و1970.
ثالثاً: حركة تحرير بنغلادش عن باكستان عام 1974، والتي أدّت إلى مليون قتيل بنغالي.
رابعاً: المجاعة الكبرى التي ضربت أثيوبيا (الحبشة) بين عامي 1983 و1985.
خامساً: المجاعة التي حلت بكوريا الشمالية بين عامي 1995 و1997، ولم تخرج منها إلا بمساعدات دولية.. لكن عندما اشتد ساعدها انتجت قنابل نووية وصواريخ بعيدة المدى!
يشير كتاب «الأشباح الجائعة» إلى أنه خلال الفترة من عام 1870 إلى عام 1970 كان معدل الموت جوعاً في كل عقد من الزمن (أي كل 10 سنوات) يتراوح بين 1,45 مليون و16,60 مليون أنسان. أي بمعدل 928 ألف إنسان في العام الواحد. لكن منذ عام 1980 انخفض عدد الضحايا إلى حوالي 75 ألف في العام، ليعود ويرتفع من جديد.
أمام هذه الكارثة الإنسانية المتمادية وضعت الأمم المتحدة برنامجاً للقضاء على ظاهرة الموت جوعاً. لكن وقائع اليوم تؤكد فشل هذا البرنامج. ولا يعود هذا الفشل إلى عجز الأمم المتحدة، لكنه يعود أساساً وبالدرجة الأولى إلى الحروب الأهلية، أي إلى صناعة الإنسان للمجاعات التي تودي بحياة عشرات الآلاف من الناس.
وكذلك فإن فشل برنامج الأمم المتحدة لا يعود إلى قلة المواد الغذائية، ولكنه يعود إلى صعوبة توصيلها إلى المحتاجين إليها بسبب تلك الحروب الأهلية، كما حدث مؤخراً في أثيوبيا. فالصومال يعاني منذ سنوات من مجاعة تعود أسبابها الظاهرة إلى الجفاف الذي أكل الأخضر واليابس. لكن المساعدات الإنسانية من المواد الغذائية يتعذّر وصولها بسبب العمليات الإرهابية التي تتعرض لها الصومال منذ سنوات. وكانت آخر مجاعة حدثت في عام 2011 قد قضت على 150 ألف شخص.
ورغم أن المجاعة تضرب اليوم مناطق في الصومال وإثيوبيا وجنوب السودان، فليس صحيحاً أن أفريقيا هي الضحية الأولى للمجاعة في العالم. إن الدراسات الرسمية الدولية تؤكد أنه خلال الفترة بين عامي 1870 و2010، كان 9,2 بالمائة فقط من عدد ضحايا المجاعات التي ضربت العالَم من الأفارقة، وأن 87 بالمائة من الضحايا كانوا من شعوب آسيا وشرق أوروبا.
ما كان لجنوب السودان مثلاً أن يتعرض للمجاعة لولا الصراع على السلطة.. أو في الواقع الصراع على آبار النفط الذي تحول إلى صراع قبلي دموي. وما كان للصومال رغم الجفاف أن تتعرض للمجاعة لولا «حركة الشباب» الإرهابية المتفرّعة من تنظيم «القاعدة»، والتي تحول دون وصول المساعدات الغذائية من العالم.
كذلك الأمر في شمال شرق نيجيريا حيث تنتشر المجاعة بسبب حركة «بوكو حرام» التي لا تحرم الكتاب فقط.. ولكنها تحرم حتى رغيف الخبز بحجة أنه يرسل إلى الجياع عبر المؤسسات الدولية «الكافرة»!
لقد أثبتت كل التجارب المأساوية التي عرفتها الإنسانية أن التجويع كان سلاحاً فاشلاً.. وأنه لا يؤدي إلا إلى مزيد من الضحايا الأبرياء من دون أن يقدم لمستخدميه سوى الانتصار الوهمي.. والذي هو في الحسابات الأخيرة أبشع أنواع الهزائم.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد