كل يوم يمضي على الحرب بين روسيا وأوكرانيا، أزداد يقينا أن البشر قلما يأخذون الماضي درسا مفيدا.
ومخطئ الظن كل من حصر الحرب التي لم تشهد لها مثيلا أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية بمدار دولتين - روسيا وأوكرانيا.
إنها حرب أكبر بكثير من حجم أوكرانيا ومعها روسيا. إنها نواة حرب إن لم تطفأ نيرانها قد تتحول وبسرعة إلى كارثة تحرق الأخضر واليابس في أوروبا وما بعد أوروبا.
وشخصيا، أدرس الخطاب واللغة التي ترافق أي حدث لمعرفة كنهه. الحدث بذاته ما هو إلا انعكاس للخطاب الذي يرافقه.
وإن تأملنا مليا اللغة التي يخاطب فيها الروس غرماءهم من الغربيين المصطفين مع أوكرانيا بكل ما أوتوا من قوة - عدا التدخل العسكري المباشر حتى الآن - والخطاب المعاكس من التحالف الغربي الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة، لارتعدت الفرائص هلعا وخوفا ورعبا.
لقد مضى على "هتلر" والنازية والمحرقة والحرب العالمية الثانية أكثر من سبعة عقود، إلا أن ذكراها والاقتباس منها والتشبيه بها حاضر وكأنها بيننا.
وقد لا تعلم شعوب الشرق الأوسط من هو "هتلر" وما النازية - ربما لأنهم أساسا يمرون بظروف عصيبة قد يكون لها مقاربات مع أحداث الحرب العالمية الثانية، إلا أن مجرد ذكر المفردتين قد يجمد الدم في عروق بعض الناس.
قبل عدة أعوام، عندما نظمت مجموعة سويدية صغيرة ذات توجهات نازية مسيرة في المدينة التي أعيش فيها، شرعت الكنائس بقرع النواقيس كما كان الحال في القرون الوسطى عند مقدم الغزاة وامتلأت دور العبادة بالسويديين، رغم كون الأغلبية الساحقة من السويديين لا دينيين، وهم يرتلون الأناشيد ويقيمون الصلاة.
روسيا تريد إزالة "النازية" من أوكرانيا، مهما كلف ذلك من أمر. الغرب بقيادة أمريكا وعلى لسان كبار الساسة والمسؤولين يرى في الرئيس الروسي أنه "هتلر" العصر، ويجب إيقافه عند حده.
لو كان لهتر والنازيين في ألمانيا ترسانة نووية مثل التي لدى روسيا أو أمريكا وحلفائها، لاستخدمها دون أن يرف له جفن.
روسيا تحرك "الثالوث النووي" - انظر إلى رمزية واستعارية المصطلح - والغرب يحرك سلاحه النووي الاستراتيجي لمقابلة التحدي الروسي.
في حوزة هؤلاء وهم يكبشون حتى الآن بأسلحتهم التقليدية الفتاكة من الأسلحة النووية ما يكفي لتدمير العالم عشرات المرات.
وإن أخذنا خطاب هؤلاء المتنورين وحللناه - الغرب كان دائما يرى ذاته منارة العلم والمعرفة وإعمال العقل، ويرى الشرق مرتعا للدين والخرافات، ويشن الحروب "لتهذيبه" - يصبح الوصول إلى كبس الزر لإطلاق الصواريخ النووية قاب قوسين أو أدنى.
الاستناد إلى السردية النازية أو التناص معها، أي وجود تشابه، حتى لو كان بعيدا غير مباشر مع ما يجري اليوم، فإن هذا لعمري مؤشر خطير لما قد يقع إن لم يفلح الغرب "العاقل" و"المتنور" و"الديمقراطي" و"حامي حقوق الإنسان" من وضع حد للحرب الدائرة رحاها في أوكرانيا.
والناس هنا تأخذ سردية التناص مع النازية محمل الجد. تشير التقارير إلى نفاد بعض المواد الأساسية في الأسواق حيث شرع كثير من الأهالي في تخزين الأغذية وقناني الغاز وأدوات الطبخ وغيرها.
وقد هرع البعض لشراء اللقاحات والحبوب أو الأدوية المتوافرة لدرء أخطار استخدام أسلحة الدمار الشامل مثل الغازات الكيميائية أو الذرية.
وتنشر الصحافة تقارير عن الأسلحة التي بحوزة الجانبين، ولأول مرة تدخل دول عمادها الحياد المعترك، مثل السويد التي قررت إرسال أسلحة فتاكة وشرعت استعراض عضلاتها العسكرية وتخصيص مبالغ كبيرة طارئة لدعم جيشها.
وفوق كل هذا، يدور خطاب لتشريع الخطوات الخطيرة هذه التي تلقي مزيدا من الوقود على النار المشتعلة حيث ينظر كل طرف إلى الآخر من موقف مناوئ "للنازية" - أي أن الغرب يحارب ما يرى شبيه "النازية" في روسيا وروسيا تحارب ما تراه شبيه "النازية" في أوكرانيا.
ولم يتوقف الخطاب عند هذا الحد. هناك إشارات كثيرة إلى الإبادة الجماعية من الطرفين وأحيانا تذكير بالمحرقة holocaust.
والمحرقة ما أدراك ما المحرقة، جرى فيها حرق نحو ستة ملايين يهودي وهم أحياء، رجالا ونساء وأطفالا ورضعا وشيوخا، إضافة إلى ملايين أخرى من الغجر وغيرهم.
وتكرار التاريخ، ولا سيما المعاصر منه، يخشاه الناس، لأن الأحداث لا تزال جزءا من الذاكرة. ولأن النازية والمحرقة جزء من التراث الأوروبي الغربي يعيشه الناس في المدرسة والمتاحف والمناسبات كي لا يقع مرة أخرى، أرى أن القائلين إن يوم القيامة قادم لهم بعض الحق في ذلك.
هذا خطاب خطير وقد تكون له عواقب مرعبة لسببين: الأول، إنه ليس الواقع. صحيح أن النازية والمحرقة كتراث وجريمة لم يعرفها التاريخ هي جزء من التاريخ المعاصر لأوروبا، إلا أن أي مقارنة أو تناص معها عمل غير منطقي وواقعي. ثانيا، التركيز على هذه المفاهيم رغم المفارقة التاريخية والواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي والاقتصادي الذي سبب هذه الحرب الشعواء سيؤدي لا محالة إلى تشويهها واستغلالها لتحقيق مآرب خاصة.
كان الغرب يتصور أن مفاهيم وأفكار ومنطلقات وممارسات مثل النازية والمحرقة صارت شيئا من الماضي ولن تتكرر، إلا أن وضع القارة الأوروبية حاليا وخطورة الموقف قد تجعل من المستحيل ممكنا.
سردية مخيفة ترافق الحرب الحالية في أوروبا
مواضيع ذات صلة