قلنا وكتبنا قبل أيام إن المراهنة على التيار الصدري، أو غيره، على أن يخلُق معجزات سياسية في العراق، هو ليس إلا ضرب من الوهم، ولا يؤمن أي مُراقب فاهم أو مواكب عاقل للحالة العراقية بإمكان حدوث أي معجزات أو حتى تحولات كبيرة وجذرية في المدى المنظور في ظل الأزمات والتحديات التي تعيشها البلاد والعباد.
الأمر لا يتعلق هنا لا من قريب ولا من بعيد بأخذ الموقف من هذا التيار أو ذاك، أو تقويمه وتعينه في صورة ما، أبداً، الفكرة تأتي-بكل بساطة- من نتائج تقارير دولية ودراسات علمية وميدانية وقراءآت متعمقة للحالة العراقية المزرية، التي باتت شبه مُستعصية على كل من يروم التعاطي معها بلغة الشعارات والخطابات الشعبوية الساذجة، أو من خلال إستغلال الأزمات والتحديات التي ليست ظرفية وحسب وإنما أغلبها ذا طابع بنيوي.
ولا مراء من أنه لا يمكن مواجهة أزمات العراق في كل الأحوال من دون مراجعة نقدية علمية جرئية لكل التجارب والمواقف أو الخطابات والمفاهيم، التي لم تجلب للبلاد والعباد سوى الخراب والدمار والعار. ولا يمكن إحتواء تحدياته الجمة من دون حشد عقلاني ووطني لكل الخبرات والعقول وكافة طاقات البلد السياسية والفكرية والإقتصادية والأمنية وقواه البشرية دون اللجوء الى إقصاء أحد، فما بالك بمساعٍ ومطامحٍ توحي لنا من الآن أن ما هو آتٍ في المرحلة القادمة يتموج بعكس الإتجاه تماماً ويخطو نحو مسار مُجازف، يبدو لنا، من الوهلة الأولى وفي مشهده التمهيدي المُتسَرّع، بأنه لا يُبشر بالخير ولا نتوقع منه أن ينتج لنا سوى مزيد من الفتن والصراعات السياسية المُدمرة والهزات الأمنية الخطيرة بل ربما إعادتنا أيضاً الى المربع الأول إذا ما لم يقف فوراً في محطة ما ولم يتأنى منازعه الملغومة، لاسيما تلك المتبناة بذرائع متهافتة ومألوفة لدى الجميع والتي أبرزها يتمثل في إدعاء مواجهة الفساد وإنهاء المحاصصة الطائفية أو تسويغات أخرى من هذا القبيل بينما – وهذه هي مفارقة الذرائع بعينها!- لا تجد اليوم أي طائفة أو مكون عراقي واحد راضٍ عن أداء ممثليه في العملية السياسية، بما فيهم التيار الصدري، الذي فقد هو الآخر قرابة 200 ألف صوت في الإنتخابات العراقية الأخيرة، فضلاً عن مخرجات ومؤشرات الإنتخابات نفسها على صعيد نسبة المشاركة، والتي إن دلت لنا على شيء فإنما تدل على إن المُتلاعبين بالعقول في العملية السياسية مُنكشف أمرُهم تماماً ولم تعُد غالبية الشعب ومكوناته المختلفة تتخدر بسهولة وتتزيف عقولها بما يُقال في حقل السياسة وما تدعيه وتُبشر به الساسة بمختلف هوياتهم وعناوينهم.
بعبارة أخرى، إن العراق اليوم في قلب أزمة حقيقة خانقة لا أحد فيه يجيد لغة جراحها ودواءها طالما لم تهتز حتى الآن بنية العقل السياسي السائد فيه بكل هذا الكم الهائل من التجارب والأحداث القاسية، التي ربما لا يتحملها أي شعب آخر على وجه المعمورة سوى الشعب العراقي المنكوب، لاسيما في ظل هيمنة نُخب تقليدية تُعزز هذه البنية المتحجرة بإستمرار وتوطدها بخطابات ساذجة، بل تُفقرها لحدٍ أصبح لا يمكن معه لأحد أن يفهم مكامن المعضلات المجتمعية والثقافية والإقتصادية ولا يستوعب حجم التعقيدات السياسية المحلية والإقليمية والدولية، التي تعيق دوماً إختبار الإرادات وتنفيذ البرامج وإجراء والإصلاحات، فما بالك إذا ما كان كل هذه الأخيرة مُفتقرة أساساً الى الدهاء السياسي والتعمق الفكري والتصور الإستراتيجي لكيفية التعامل مع أحوال البلاد وأهوال العباد.
إن ما يفكر فيه السيد مقتدى الصدر وتياره الآيديولوجي العقائدي ومعسكره السياسي الجديد في العملية السياسية لعراق اليوم لا يؤول الى شيء سوى المزيد من الفتن والأكفان والنزاعات وضياع الحاضر والمستقبل معاً، وإذا كانت الصراعات الماضية متغذية على أبعادها الطائفية والقومية فإن الصراعات القائمة والآتية ستقوم على أبعاد إضافية تتخذ تسويغها من إتقاء مكونات العراق من شر التشتت والتشرذم الداخليين، والذي أصبح يهدد وعلى وجه التحديد البيت الشيعي والكُردي في العراق نتيجة لإستقطابات سياسية سلطوية مصالحية جديدة تتسم بالتهور السياسي ولا تأبى بالعواقب السياسية والمجتمعية والأمنية التي ستخلفها، ومتبجحةً فقط بأغلبية نيابية صورية في بلد قاطعت فيه 70% من أبناءها الإنتخابات ولاتثق بأهلية الحكام تحت أي أسم من المسميات.
بمعنى آخر، إن القادم سيكون أسوأ إذا لم يُفقه هذا المعسكر السياسي الجديد لغة السياسة بلهجاتها المختلفة!، ولا يمكن تكهن حجم التهديدات والمخاطر التي سنواجها في قادم الأيام والأزمان إذا ما لم نَعُد الى عين العقل والرزانة في التفكير وممارسة السياسة بآفاقها التواصلية والإنفتاحية والتوافقية، أي الصيغة المواكبة والملائمة لكل مجتمع يتمتع بالطابع الفسيفسائي خصوصاً إذا ما كان هذا المجتمع يتميز أصلاً بحساسية كبيرة – ربما من كثرة حرمانه- تجاه نزعات الإقصاء والإستبعاد والتحريم من المشاركة السياسية.