مضت أكثر من سنتين على تأسيس حركة "بوديموس" (نستطيع) الإسبانية، التي تعد فضاء جديدًا مغايرًا بكل المقاييس للأعراف التنظيمية التي اتبعتها التنظيمات التاريخية المحافظة والتقدمية.
إيلاف من الرباط: خلال عمرها القصير، اتسعت دائرة الحركة التي قادها في البداية طلاب سابقون تعرفوا إلى بعضهم البعض أثناء سنوات التحصيل الجامعي، ليلتقوا في ما بعد بالصدفة أو بفعل تأثير رياح "الربيع العربي" التي هبّت عليهم نسائمها فأنعشت أسئلة التغيير في حلقاتهم الفكرية الصغيرة.
تساءلوا: "لماذا لا نستطيع فعل ما فعله الشباب العربي، في تونس ومصر واليمن وليبيا، وهي مجتمعات أقل تقدمًا ومنسوب الحرية فيها أضعف من إسبانيا؟".
السؤال وجيه ومبرر، فإسبانيا آنذاك كانت غارقة في بحر تداعيات أزمة اقتصادية واجتماعية عميقة، دفعت مئات الشباب إلى الهجرة، طارقين أبواب بلدان الجنوب النامية، طمعًا في عمل ومستوى لائق من العيش؛ أما أقرانهم الذين فضلوا البقاء في الداخل، فلم يستسلموا للواقع، وبحثوا عن بدائل لتغييره.
انطلقت شرارة العصيان من ساحة "باب الشمس" في قلب العاصمة مدريد. هناك نصب من صار يطق عليهم "إنديغنادون" (بدون كرامة) خيامًا جرت تحتها مسامرات ليلية تحلم بالتغيير بأي ثمن، بعد فقدان الثقة في أحزاب أصبحت، من وجهة نظرهم، صدئة ملطخة السمعة جراء الفضائح المالية والفساد السياسي التي تورط فيها مسؤولون من اليمين واليسار، على مدى عقود العهد الديمقراطي.
شعار الثورة على الهياكل العتيقة
رفع المحتجون شعار الثورة علي الهياكل الحزبية العتيقة لبناء مجتمع جديد تسوده العدالة الاجتماعية المطلقة، حيث يحكم الشعب نفسه بنفسه عبر آليات الديمقراطية التفاعلية، تحركها خلايا ولجان شعبية موزعة على الأحياء في المدن والمناطق الإسبانية، مهمتها رفع منسوب التذمر والاستياء بين المواطنين جراء السياسات الحكومية التي اتبعها الاشتراكيون والمحافظون، ممن تداولوا السلطة وانفردوا بها طوال ما يقرب من أربعة عقود.
انتشرت عدوى الإيديولوجية الغاضبة، كما النار في الهشيم؛ وكانت مزيجًا من الأفكار اليسارية والماركسية غير الناضجة، مصبوبة في قوالب من الرومانسية اللفظانية، مغلفة بفيض من الأحلام الطوباوية؛ سرعان ما وجدت مكانًا لها بين الحشود الشبابية، بفعل شبكات التواصل الاجتماعي ونتيجة التضامن التلقائي بين تلك الفئات العمرية.
وبين لحظة وأخرى أصبح "بوديموس" تنظيمًا افتراضيًا رقميًا بامتياز، نجح في استقطاب أفواج من المنخرطين عبر الفضاء الأزرق.
المناضل الرقمي
استبدل قادة الحركة الجديدة الأسلوب العتيق المتبع في استمالة الأفراد إلى تنظيم سياسي. الآن صار يكفي المناضل الرقمي، تدوين معلومات شخصية في الخانة الالكترونية الموضوعة في موقع الحركة مقابل دفع اشتراك ليصبح منخرطًا كامل العضوية؛ له رأي افتراضي مسموع في القرارات الوطنية الحيوية. يشارك عبر المنتديات الرقمية في صياغة البرنامج الحزبي ورسم خرائط الطريق نحو النصر.
كان من الطبيعي، بالنظر إلى المزاج السياسي العام في إسبانيا عام 2014 أن تجد "بوديموس" من يصغي إليها بسهولة ويقتنع ببرنامجها لإصلاح الأوضاع على الصعيد المحلي والوطني. أدبيات الحركة اتسمت بالبساطة والقرب من مشاكل الناس، أكثر إغراء، ولكونها مغرقة في الحلم والتفاؤل، جعلت البسطاء يصدقونها وعلى لسانهم سؤال: لماذا لا نجرب حكم الشباب وعذريتهم السياسية.
وسط التجمعات الجماهيرية التي دعت إليها الحركة الجديدة في ساحات المدن الإسبانية؛ وجد الحاضرون أنفسهم أمام فتيان معظمهم دون الأربعين، أرسلوا شعورهم على لحاهم الكثيفة أو أهملوها فوق رؤوسهم؛ لا يبالون بهندام أنيق مثل باقي الزعماء التقليديين.
يتناوبون على الميكروفونات وكأنهم مجموعات موسيقية تغني للحب، وليسوا قادة سياسيين يناقشون قضايا المواطنين. كلماتهم ملتهبة مبشرة بجنات عدن، على أنقاض نظام قائم على "الطوائف"، كما وصفه زعيمهم زعيم الحركة بابلو إيغليسياس، وهو أقسى نعت قيل في حق الطبقة السياسية الإسبانية. وما عبارة "الطوائف" ذات الإحالة التاريخية السيئة، سوى التعبير المهذب بدلًا من لفظ "العصابات".
الحماسة والهتافات سيدة التظاهرات
الحماسة والهتافات أصبحت سيدة التظاهرات في موازاة أحاديث متواترة في وسائل الإعلام المنشغلة بالظاهرة السياسية الفريدة بانتقادها تارة والتحذير منها تارة أخرى باعتبارها شكلًا من أشكال الفوضوية الجديدة، تضيف أوجاعًا إلى البلاد.
كانت حقًا أجواء مفعمة، يتجاذبها خليط من الأفكار حفز الناخبين لوضع ثقتهم في الحزب الجديد. منحوه أولًا مقاعد في البرلمان الأوروبي، ما شكل مفاجأة اعتبرت مؤشرًا إلى ما ستجنيه الحركة من انتصارات في الانتخابات التشريعية (ديسمبر2015). وبالفعل فازت بـ69 مقعدًا في مجلس النواب الإسباني، محتلة المرتبة الثالثة بعد الحزبين الكبيرين: الشعبي والاشتراكي؛ ولم يكن لها تمثيل سابق في المؤسسة التشريعية.
انفتحت شهية "بوديموس" للسلطة، وبدا قصر "لا منكلوا" مقر رئاسة الحكومة، على مرمى حجر الأنصار والمتعاطفين. هكذا دخلت الحركة المزهوة بلذة الانتصار الأول، ساحة المناورات السياسية، لها حساباتها وتقييمها للوضع المستجد، ما سيدفعها إلى استعراض قوتها والتصرف وكأنها القوة الحزبية الأولى في البرلمان. حاولت فرض شروط تعجيز على الحزب الاشتراكي في مقابل تصويتها على الحكومة التي كلف ملك إسبانيا، أمينه العام، تأليفها بعد اعتذار زعيم الحزب الأول ماريانو راخوي.
الخلاف بين الاشتراكيين وبوديموس
لم يكن الخلاف بين الاشتراكيين وبوديموس كبيرًا بصدد البرنامج الاقتصادي والاجتماعي؛ فالتقارب قائم بينهما بشأن الكثير من ملفات الإصلاح. لكن التباعد عميق في الأمزجة والطباع الشخصية والطموحات السياسية، وانعكس بوضوح على قضايا كبرى تتعلق باستمرار إسبانيا كدولة موحدة التراب، عضو فاعل في الاتحاد الأوروبي، منخرطة في منظومة الدفاع الأطلسية، وأخيرًا تشبثها بنظام الملكية البرلمانية الضامن الرمزي والوجداني لتعايش الأقاليم والجهات متكاملة في ما بينها، بدلًا من الانسياق وراء دعوات الانفصال عن مدريد التي ترفعها أحزاب إقليمية في "كاتالونيا" وسواها.
تشدد الأمين العام للحركة إيغليسياس في مواقفه من الاشتراكيين، فصوّت ضد مرشحهم لرئاسة الحكومة بيدرو سانشيث مرتين، فعجل ذلك في حل البرلمان المنتخب والدعوة إلى انتخابات ثانية في أقل من سنة. ذلك الموقف المتسرع أثار الأسئلة بخصوص مقاصد "بوديموس" الدفينة، فاتسعت شقة خلافهم مع الاشتراكيين، وانقطعت سبل الاتصال بينهم.
هل اخطأت بوديموس؟
هل أخطأت الحركة؟، إذ بدلًا من أن تتريث وتتصرف بمرونة، سقطت في سوء تقدير تاريخي، وتوهمت أنها ستتجاوز الحزب الاشتراكي في الاستحقاقات التشريعية المعادة، وتزيحه عن زعامة قوى اليسار في إسبانيا، بل ذهبت بها الظنون إلى الاقتناع باحتلال المرتبة الأولى في البرلمان، مصدقة استطلاعات الرأي التي رتبتها من قبل الاشتراكيين.
ولعل الخطأ التكتيكي الجسيم الذي ارتكبته "بوديموس" دخولها في تحالف انتخابي على عجل مع حزب اليسار الموحد، ذي المرجعية الماركسية والميول الجمهورية المعلنة، وتطبيق اشتراكية وفق النموذج السوفياتي المنهار.
أخفق الرهان الانتخابي، ولم تضف الحركة أي صوت إلى رصيدها في استحقاقات ديسمبر الماضي، في حين حسن الحزب المحافظ موقعه بكسب أصوات جديدة، من دون أن يتغير المشهد الحزبي، بل ظل مبعثرًا كما في السابق، ما استوجب إعادة الانتخابات.
انحناءات الرؤوس.. والصمت الرهيب
تراجع "بوديموس" وفقدانها حوالى مليون صوت، جعل قادتها يحنون الرؤوس، ويلوذون بالصمت الرهيب، ليلة 26 يونيو الماضي، وقد حسبوها موعدًا للنصر العظيم. هم ينتظرون الآن خارج اللعبة، ما ستسفر عنه المشاورات لإعلان حكومة جديدة.
استغرقت الاتصالات أكثر من شهر، خرج بعدها رئيس الحكومة المرشح، وظهر قبل أيام موزعًا بين التفاؤل الحذر والخشية من تكرار الانتخابات التي ستجعل من إسبانيا "أضحوكة" لا تنافسها في ذلك إلا اليونان.
لا يريد راخوي أن يفقد الأمل في تغيب الحزب الاشتراكي عن جلسة منح الثقة، وهو مستمر أيضًا في مغازلة وإغراء القوة الرابعة في مجلس النواب، أي "ثيودادانوس" (مواطنون) وزعيمها ألبرت ريفيرا، الذي يقوم بدور تهدئة معاكس للذي تمارسه "بوديموس" من خلال سعيه إلى إقناع الاشتراكيين بجدوى الغياب عن التصويت لإخراج البلاد من مأزق الانسداد بحكومة أقلية.
دعوة ريفيرا تخيف أنصار إيغليسياس
دعوة ريفيرا تخيف أنصار إيغليسياس هم لا يحبذون رؤية الحزب الشعبي على رأس الحكومة، بصرف النظر عن طبيعة التأييد الذي سيحصل عليه من الاشتراكيين. يسعون إلى تفاقم الأزمة السياسية وتجريب حظ جديد مع استحقاقات ثالثة.
في الوقت الراهن، يجري نقاش محتدم داخل صفوف "بوديموس" يتصل بمرتكزات الإيديولوجيا المؤسسة للحركة وأساليب التنظيم والاستقطاب المتبعة في جلب الأنصار، وكذا مدى التحالفات مع المحافظة على نقاء الهوية الأصلية. يحاول المتناظرون الاستفادة من أخطاء لم يعد ينكرها بعض قادتهم بممارستهم نقدًا ذاتيًا في أفق قيام حركة شعبية جديدة ذات وجه مهادن، قد تتبنى اشتراكية معتدلة. وهذا التيار (وسط اليسار) موجود في الحركة، وله رموزه وممثلوه في قيادتها، وليسوا على وئام تام مع الزعيم "بابلو" المنقاد نحو خطابية شعبوية.
إن ما يميز النقاش الجاري، حسب منابر إعلامية، هو غياب الحضور الطاغي، كما في الماضي، لزعيم الحركة إيغليسياس بعد فشل مجمل رهاناته الانتخابية والسياسية، فأجبر على تقليص حصص كلامه، وفسح المجال لقياديين آخرين من قبيل نائبه أنريكي إريخون، ومسؤول التنظيم بابلو إيشينيكي، ليعرضوا على الأعضاء أطروحاتهم لمناقشتها قصد التصويت عليها في المؤتمر العام في بداية العام المقبل وسط توقعات بالحدّ من مركزية القرارات وتأسيس ديمقراطية القواعد والفيدراليات.
أخطر ما يخيف "بوديموس"
أخطر ما يخيف حركة بوديموس عزلتها وحصول توافق على شكل الحكومة المنتظرة واضطرارها للاصطفاف في المعارضة، ما سيعني خفوت صوتها وانطفاء جذوة نضالها، وابتعاد محتمل للناس عنها. إنها تبعات الرومانسية المفرطة وتغييب للعقل السياسي الراجح القادر على تحليل واستيعاب التحولات في المجتمعات والتمييز بين العارض السطحي والجذري العميق، قبل تبني أية إستراتيجية للتغيير.
لكن يجب الاعتراف لحركة بوديموس، كما للربيع العربي، بفضيلة لفت أنظار الفاعلين السياسيين لضرورات التغيير، وذلك بالتعاطي مع ثقافة العصر والإصغاء للقوى الصاعدة، التي باتت القوالب الحزبية العتيقة عاجزة عن استيعابها وتحقيق انتظاراتها.