إيلاف من بيروت: في غرفة شبه مظلمة، تقف امرأتان ترتديان الأسود. الضوء الخافت ينساب على وجهيهما، فتظهر ملامحهما بوضوح، ليست ناعمة كما اعتدنا رؤيتها، بل حادة، مشدودة كأوتار مشحونة بالغضب. عيناهما مغمضتان، لكن ليس استسلامًا، بل تمرّدًا على واقع تُفرض فيه عليهنّ الأحكام بينما ينجو الجاني.
هيفاء وهبي ونور عريضة، امرأتان في قمة مجديهما، أيقونتان للجمال والنجاح، لكن هذا لم يحصّنهما من سيل التحرّش الإلكتروني. في فيلم قصير بعنوان "لا تخلي حدا يسرق منك حريتك - التحرّش ليس افتراضياً"، تواجهان الكلمات التي تطاردهما يوميًا، تقرآنها علنًا، بلا خجل أو تعديل، في خطوة جريئة لكسر الصمت حول ظاهرة تطارد ملايين النساء.
تنظرُ هيفاء وهبي إلى الكاميرا وتعابير الاستياء واضحة على وجهها، بعد سماعها لتعليق كتبه مستخدم مجهول على إحدى صورها: "أريد أن أفرك (كلمة بذيئة) مع صوت". ذلك التعليق ليس إلا عيّنة من سلسلة تحرّشات لفظية قرأتها المغنية والممثلة اللبنانية بصوت عالٍ وعلى الملأ، مع نور عريضة.
في اللحظة التي تبدأ فيها قراءة التعليقات، تتغيّر ملامحهما. الجمل القذرة التي اعتاد الناس رؤيتها كشأن عابر على منصات التواصل الاجتماعي تتحوّل إلى طعنات مسموعة، مرئية، محسوسة. المشاهدون، لأول مرة، يسمعون بوضوح ما يواجهه المشاهير خلف الشاشات، والرسالة واضحة: التحرّش ليس مجرد كلمات، بل جريمة.
"العيب فيكم وليس فينا"
هيفاء تتلو تعليقًا يحمل إيحاءً جنسياً وقحًا. تتوقف لحظة، تنظر إلى الكاميرا مباشرةً، وتقول بصوت ثابت: "دائمًا ما يُقال إن هناك عيبًا في جسم المرأة".
نور، بجانبها، تهزّ رأسها ببطء، ثم تسأل: "لماذا صار من السهل على أيّ كان أن يكتب ما يريد؟ لماذا هذه النظرة للمرأة العربية؟ كأنني لست أماً وكأنه ليس لدي قلب وروح وذكاء وعقل".
ثم تأتي الجملة التي تصفع الواقع بقوة، من هيفاء وهبي مباشرةً: "العيب فيه وليس فيكِ. هل كان سيتجرأ على قولها أمام شرطي؟ أمام والدته؟".
هذه الكلمات جريمة
لطالما تعلمت النساء ألا يُكررن الإهانات التي تُقال لهن، ألا يمنحنها وزنًا، ألا يدعوها تتسلل إلى أذهانهنّ. لكن في هذا الفيلم، تتعمّد هيفاء ونور قراءتها بصوت عالٍ، لتُرغم المتحرّش على مواجهة كلماته، كمن يمسك بمرآة قسرية أمام وجهه القبيح.
"هذه الكلمات جريمة"، تقول نور بحزم، وهي تردّ على مَن يبرّر التحرّش بما ترتديه النساء أو بما ينشرنه على إنستغرام.
تعليقات كُتبت لهما عُرضت على شاشة ضخمة، ليست مجرد حروف عابرة على الهاتف، بل كلمات ضخمة تملأ مساحة الرؤية، كأنها تُحاصر المكان، تُشعر الجميع بوطأتها. لا مجال للتهرّب منها، لا مجال لتجاهل قبحها.
المخرج إيلي فهد يعلّق لـ"بي بي سي" بصوت يشي بالكثير من التفكير الذي سبق تنفيذ العمل: "أردنا أن نجعل هذه التعليقات ملموسة، محسوسة، لكي يدرك الناس أنها ليست مجرد كلمات، بل أذى حقيقي".
لكن، كيف تُجسّد الكلمات؟ كيف تُحوَّل العبارات التي اعتادها الناس، التي باتت جزءًا من الضجيج اليومي على الإنترنت، إلى شيء يُشعر المُشاهد بثقله؟
يشرح فهد الفكرة: "التعليقات المسيئة تُلقى بخفة، بضغطة زر، لا يراها الكاتب إلا للحظة، ثم يمضي دون أن يفكر في وقعها. نحن أردنا أن نوقف الزمن عند تلك اللحظة، أن نُرغم الجميع على التحديق في هذه الكلمات، أن نُخرجها من هواتفهم الصغيرة ونعرضها أمامهم بحجم الجدار".
في المشهد، تظهر التعليقات على شاشة عرض ضخمة، تمتدّ أمام نور عريضة وهيفاء وهبي، كأنها جدران تطوّقهما، كأنها قيود تُحاصر حريتهما. الكلمات التي قيلت باستخفاف، أصبحت مرئية، ملموسة، حقيقية. لم تعد مجرد إشعارات تظهر وتختفي، بل باتت وحشًا من حروف، يملأ الفراغ، يفرض وجوده، يُجبر الجميع على رؤيته.
يضيف فهد: "عندما يقرأ أحدهم تعليقًا مسيئًا على الإنترنت، ربما يمرّ عليه مرور الكرام، يظنّه مجرد رأي، أو مزحة، أو حتى شيء لا يستحق التوقف عنده. لكن ماذا لو كُتب هذا التعليق على لافتة ضخمة في وسط شارع مزدحم؟ كيف سيكون الشعور عندها؟ هل ستبقى الكلمات بريئة؟ هل سيظل الأمر بلا وزن؟".
هذا التحوّل البصري كان عنصرًا أساسيًا في التجربة. المشاهد لن يستطيع تجاهل العبارات، لن يتمكن من التمرير للأسفل كما يفعل عادةً عندما يصادف تعليقًا بذيئًا. في الفيلم، لا مهرب من مواجهة الواقع، من رؤية الأذى كما هو، دون تجميل أو تخفيف.
يؤكد المخرج: "أردنا أن نقول للمتحرّشين: هذه ليست مجرد كلمات. هذه طعنات. هذه جريمة. وهذه الجريمة لن تبقى غير مرئية بعد اليوم".
لن أخجل من أنني امرأة
في أقل من 24 ساعة، تجاوز عدد المشاهدات 7 ملايين. الرسائل بدأت تتدفق، ليس فقط من نساء تعرضن للتحرّش، بل من رجال يقولون إنهم بدأوا يرون الأمور بطريقة مختلفة. كتبت إحداهنّ: "لم أجرؤ يومًا على التحدث عن التحرّش الذي تعرّضت له، لكن بعد هذا الفيديو، أشعر أنني أملك القوة لأفعل ذلك".
لكن، كما في كل نقاش يخصّ النساء، لم تغب الانتقادات. بعضهم قال إن الحملة نخبوية، لا تمسّ سوى المؤثرات والمشاهير، وإنها بعيدة عن الواقع.
رنا خوري، المديرة الفنية لوكالة "ريد ذا روم"، تردّ لـ"بي بي سي" بحزم: "التحرّش لا يفرّق بين امرأة مشهورة وامرأة عادية. إنه واقع تعيشه كل النساء".
الابتزاز الجنسي: "خلال ست ساعات، مات ابني"
كيف كان الأخوان تيت يوقعان القاصرات الرومانيات في براثنهما؟ تقول خوري، التي عملت مع نور عريضة على تطوير فكرة الحملة: "أردنا القول إن مجرد وجود التحرّش على الإنترنت لا يجعله أمراً افتراضياً أو غير حقيقي. التحرّش، سواء كان إلكترونياً أو غيره، هو جريمة يعترف بها القانون. وفي بعض الحالات، يمكن أن تكون آثارها مدمّرة".
التحرّش الإلكتروني ليس ظاهرة عابرة أو محدودة، خصوصاً في المنطقة العربية. توظف جمعيات ومنظمات كثيرة جهودها لحثّ النساء والفتيات على التبليغ ضد أي تحرّش أو ابتزاز جنسي قد يتعرّضن له على مواقع التواصل، ولكن التبليغ وحده قد لا يكون الحلّ.
وقد أشار تقرير لـ"هيئة الأمم المتحدة للمرأة" صدر عام 2021، إلى أن "نصف مستخدمات الإنترنت في الدول العربية يخشين التحرّش الإلكتروني"، وأن "واحدة من كل خمس نساء تعرضن للعنف الإلكتروني حذفن حساباتهنّ".
الشريط محاولة لكسر وصمة العار المرتبطة باستباحة أجساد النساء على مواقع التواصل:
قضية تمسّ الجميع
نور وُجهت لها تعليقات حول جسدها منذ أن بدأت حياتها المهنية كعارضة أزياء، وشاركت في حملات عديدة دفاعًا عن النساء. أما هيفاء وهبي، فقد عاشت هذه التجربة لسنوات، وصمدت أمام سيلٍ من التنمّر والتحرّش، لكنها اليوم تقلب الطاولة، تُمسك بزمام السرد، وتفرض لغتها الخاصة: لغة القوة.
هيفاء تنظر للكاميرا وتقول الجملة الأخيرة، الجملة التي تلخّص كل شيء: "لن أخجل يومًا من أنني امرأة. لن تغيّر هذه التعليقات طريقة تفكيري. أنا حرّة. أنا لا أنظر إليك وأحكم عليك بحسب ما ترتديه من ثياب".
بهذه الكلمات، تختم الفيلم، لكنها تفتح نقاشًا أوسع، نقاشًا لن ينتهي حتى يصبح الإنترنت، مثل العالم الحقيقي، مكانًا أكثر أمانًا للنساء.