: آخر تحديث

نظرية "ياواش ياواش"

24
18
22

تحولت عبارة "ياواش ياواش" التي قالها حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله اللبناني في إطار حديثه عن التوتر الحاصل مع دولة إسرائيل، إلى "تريند" جعل منه منافساً لنجوم منصات السويشال ميديا.

هذه العبارة لم ترد في خطاب نصر الله اعتباطاً بل جاءت في سياق فلسفة الخطاب وأهدافه العامة، حيث أدرك نصر الله أن جمهوره قد سئم التهديد والوعيد، وتعاظمت تكلفة سلوكيات الحزب لبنانياً، وأضافت للبنان الذي تعاني مشاكل كثيرة متراكمة، معضلة أكبر هي احتمالات التعرض لهجوم إسرائيلي واسع رداً على أي عملية عسكرية كبيرة قد يقوم بها الحزب انتقاماً لمقتل أحد كبار قادته " فؤاد شكر" أو مشاركة لإيران في هجومها المحتمل ضد دولة إسرائيل أو الاثنين معاً. في ظل هذا الإدراك، لجأ نصر الله إلى امتصاص الغضب وتكرار التأكيد بضرورة  "التصرف بروية... بأناة... بتأني وأيضا بشجاعة وليس بانفعال. إنو يلا ضربني قومو لنضرب... يا واش يا واش... شوي شوي" ولكن فات على نصر الله أن جمهور الحزب ومؤيديه لم يعد لديهم أي ثقة في مثل هذه التصريحات، وأن هناك فارقاً شاسعاً بين توقعات هؤلاء المؤيدين وبين محاولات نصر الله تضخيم أي عملية ينفذها الحزب ضد دولة إسرائيل.

الأرجح أن القادة الإيرانيين قد دفعوا بنصر الله هذه المرة لمحاولة إكساب تهديداتهم لإسرائيل المزيد من المصداقية، لاسيما أن ردهم على قصف القنصلية الإيرانية في دمشق وقتل قادة كبار من الحرس الثوري (العميد محمد رضا زاهدي وسبعة ضباط آخرين في فيلق القدس)، قد تحول إلى مصدر للسخرية والاستهزاء بالنظام الإيراني وهجومه المسرحي، وهو مايفسر تحول قائد ميلشيا لبنانية إلى متحدث صريح باسم النظام الإيراني ويذكر بأن الايرانيين "يذبحون بالقطنة"، في كناية عن طول بالهم وقدرتهم على الصبر والتريث، وهذا حقيقي إلى حد كبير وقد انعكس على وجه الخصوص خلال ماراثون متكرر لمفاوضات البرنامج النووي الإيراني سواء قبل توقيع اتفاق 2015 الكارثي الذي وقعته إدارة أوباما، أو خلال السنوات الثلاث الماضية من إدارة بايدن، والتي حصلت فيها إيران على مكاسب استراتيجية عديدة من الجانب الأمريكي على أمل أن يؤدي ذلك بالأخير إلى توقيع صفقة إحياء "خطة العمل الشاملة المشتركة" (الاتفاق النووي)، وهذا لم يحدث بالطبع.

نصر الله يدرك تماماً أن قرار الرد على اغتيال " فؤاد شكر" ليس بيده بل في طهران، وأن قرار طهران هذه المرة ليس بيدها، بل يتوقف بشكل كبير على موقفي روسيا والصين، اللتين تعول عليهما طهران كثيراً في مساندتها دبلوماسياً على الأقل في حال اتسعت رقعة الحرب،  وهو أمر يتوقف بالتبعية على حسابات الكرملين، الذي سيجري بالضرورة جردة حساب استراتيجية دقيقة للأرباح والخسائر في حال انشغال الولايات المتحدة بحرب كبيرة في الشرق الأوسط، وتأثير ذلك على الأزمة الأوكرانية، وبالتالي التعرف إلى مصلحة روسيا ومن ثم اقناع الجانب الإيراني بما يراه ملائماً للطرفين، وكذلك الحال بالنسبة للصين، التي ستقيس تداعيات اشتعال حرب بين إيران و دولة إسرائيل على مصالحها وكذلك على علاقاتها مع الولايات المتحدة في إطار الصراع القطبي الأشمل بين القوتين الكبيرتين.

في ضوء ماسبق، يمكن القول أن نظرية "ياواش ياواش" هي محاولة بائسة لإظهار تماسك مصطنع، ومجرد مُسكن لامتصاص الغضب بين أتباعه جراء الخسائر المتلاحقة للميلشيا، ومحاولة تغذية حالة القلق التي يتصورها نصر الله وحلفائه الايرانيين لدى القادة الإسرائيليين والأمريكيين، ولكن الحقيقة أن نصر الله يدرك تماماً ما وراء الكواليس، ويعرف أن استهدافه شخصياً مسألة واردة وليست مستبعدة بالمرة ولكنها تبقى قيد حسابات دولة إسرائيل نفسها، حيث بات مؤكداً أن هناك اختراقات عميقة داخل استخبارات الحزب بعد استهداف كبار قادته وكذلك قادة ومستشارين عسكريين إيرانيين كانوا في حماية الحزب خلال الفترة الماضية.

الكثيرون يعرفون أن لإيران باع عريض في تطبيق استراتيجية الصبر والتريث، وأن حديث نصر الله عن "الذبح بالقطنة" هي تعبير بشكل آخر عن هذه الاستراتيجية، ولكنه فإنه يحاول هذه المرة رفع الضغوط الهائلة الواقعة على النظام الإيراني للرد على اغتيال هنية من خلال توظيف موقعه كقائد ميلشيا في مواجهة مباشرة مع دولة إسرائيل، في نقل الضغوط إلى الجانب الآخر.

المؤكد أن فكرة خوض حرب شاملة ضد دولة إسرائيل لا تراود نصر الله، والأسباب هنا عديدة برأيي، أولها أن ميلشيا "حزب الله" ليس لديها قضية وطنية حقيقية في عدائها المزعوم مع إسرائيل، فهي مجرد ذراع/ واجهة/ وكيل لإيران في صراعها الجيواستراتيجي الممتد مع دولة إسرائيل، وتعمل في إطار منظومة تعرف بـ"محور المقاومة"، وبالتالي فهي وزعيمها ليسوا أصحاب قرار، ولا أصحاب قضية، وموقفهم مرتبط تماماً بما يرسل إليهم من تعليمات يبعت بها الحرس الثوري، ولهذا نجد أن نصر الله لم يتحدث في خطابه الأخير عن قرار خاص بالحزب فيما يخص الرد على اغتيال "فؤاد شكر"، بل ارتهن الأمر بشكل واضح ومؤكد لمن يذبحون بالقطن!

كل ماسبق لا ينفي أن هناك احتمالية لتصعيد عسكري ما ينفذه الحزب تنفيذاً لتوجيهات إيرانية، ولكن ماقصدته أن نصر الله قد كشف ما تبقي من أوراقه، وأنه مجرد ذراع مفضوح لإيران وليس حزباً أو ميلشيا لبنانية تدافع عن قضية تخص اللبنانيين، فلا لبنان لها علاقة بما يفعله نصر الله مع دولة إسرائيل، ولا اللبنانيين قادرين على تحمل فاتورة أخرى لارتباط هذه الميلشيات بتحالف مشبوه مع إيران، وأن نظرية "ياواش ياواش" فاضحة كاشفة لعبث إيران ووكلائها بمصائر شعوب المنطقة ودولها.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.