أعترف بأن الزمن يتغير بسرعة، وتتغير معه صنوف التخصصات والمهن؛ ومنها الصحافة، ولم يعد أحدٌ قادرًا على مواجهة أعاصير الرقمية والسليكون، وأمزجة البشر المتقلبة بسرعة البرق. فقارئ اليوم ليس قارئَ الأمس بالحسابات الزمنية والسيكولوجية، وحسابات الحقل والبيدر.
لا خيار لمن يكتب اليوم إلا التوجُّه إلى كتابة الومضة الصحفية التي تندر فيها المواويل الطويلة، وتكاد أوركسترا المعاني العميقة أن تتلاشى، وتزداد فيها صخب طرب الكلمات السريعة، والقنابل الصوتية. صار كُتَّاب الأعمدة الصحفية، وهم الأقل كتابة للحروف والمعاني، في مرمى الهدف أيضًا؛ مطلوب اختصار المختصر، وحذف حروف الجر الزائدة للتوكيد بشرط تمام المعنى!
ليس لقارئ اليوم نفسٌ طويل في التمتع بالمقالات الطويلة؛ لأن ذائقته القرائية تنسجم مع معطيات العصر السريعة في كل شيء، فهو ينتظر التركيز والتكثيف، وصياغة الكلمة كالبرق السريع الخاطف، كلمة تدغدغ مشاعره وأحاسيسه الوجدانية، وتختزل الموقف والمفردة والشعور -في نفس الوقت-، وتثير الدهشة المنمقة الملائمة لتقنيات السرعة والإيجاز.
منذ زمن وأنا أفكر في موضوع اختصار المقالة، فهو قرار أنا مؤمن به جدًّا؛ لأنه يناسب ثوب العصر، وعقل القارئ ورغباتِه المتناقضة. فالقارئ يُريد أن تقول له الفكرة بسرعة وتمضي؛ لأن سمعه وبصره يضيقان ذرعًا بالتفاصيل والتحليلات، وبما مضى وما هو آت!، وبالقدود الحلبية، والأغاني الطويلة (الكلثومية)، فهو يريد عمودًا صحفيًّا بجملٍ قصيرة ضاربةٍ في الأعماق، ويريد صوتًا عاليًا غير مبحوح وغير مجروح!
إقرأ أيضاً: مهرجانات التفاهات
ازدواجية أقلقتني منذ زمنٍ بعيد، وصارت همًّا مركبًا بين معاناة اختيار الفكرة، وخطورتها الأمنية، وبين مزاج المُتلقِّي الذي يريد حزمةً متكاملة من النقد الشديد، والتحليل والنتائج والحلول، في عمود صحفي له حدوده ومتطلباته الفنية داخل الصحيفة. والأهم من كل هذا وذاك: ألا تهمل ما في عقل القارئ من أمنيات ومتطلبات ورغبات، ومزاج وامتزاج!
أحدهم يريد منك أن ترفع الفاعل من الجملة وتكتفيَ بالمفعول به، وآخر يُزعجه أن تنتقد مقدساتٍ سياسية يؤمن بها، وهناك مَن يطلب منك أن تنحاز لأيديولوجيته وتلغي عقلك. من هنا، تقع في فخ الحيرة؛ ماذا تكتب، وأنت وسط ألغامٍ من الأمزجة المتقلبة، والرغبات البرتقالية التي لا تهدأ؟!
مرةً يُقلدونك نوطَ الشجاعة الصحفية، وفي الأسبوع الثاني يُلغى قرار منح النوط، وفي الأسبوع الثالث تصبح عميلًا (بالجار والمجرور)، وفي الأسبوع الرابع يُرفع من على جسدك وشم الخيانة، وتُعاد لك أملاكك الصحفية المحجوزة، ووطنيتك المُلغاة!
لا تخف، عُد للوطن سالمًا مُنعَّمًا دون الضمير!
إقرأ أيضاً: سيرتي في الصحراء
قلق مزدوج لا يرحم؛ بين قارئ يريد منك أن تكون نبيًّا على الأرض، وتكون في نفس الوقت قاعدة لإطلاق الصواريخ الصحفية، ويلغي عليك اعتبارات المهنة والمزاج وطقوس الكتابة، فهو يجهل لحظات الكتابة ومعاناتها التي تُبنى على: وجع القلب، واضطراب القولون، وارتفاع الضغط والسكر، ومزاج الكاتب الذي يصل به حتى إلى نوع الورق وألوان أحبار الكتابة.
لقد كان أنيس منصور لا يكتب إلا باللون الأسود؛ بينما كان العقاد يكتب بالحبر الأحمر، وتوفيق الحكيم يكتب بالقلم الرصاص، وأحمد شوقي يكتب على علبة سجائر عندما تأتيه الفكرة فجأة؛ ولا يجد أمامه ورق الكتابة! ونحن نكتب وخوفنا من الحبر الأحمر للمخبر السري، ومن الحبر الأسود لتقارير أبناء الأحزاب العقيمة!
إقرأ أيضاً: السوداني العراقي
كنت أظن أنَّ المزاج المتقلب حالة عراقية، فاكتشفت أنها من أمراض الشخصية العربية المزمنة، فقد كان مصطفى أمين صاحب عمود (فكرة) في صحيفة (أخبار اليوم) المصرية - وهو أشهر عمود صحفي في الصحافة العربية -، يشكو مزاج القارئ وتقلباته، بين قارئ يؤيد وقارئ ينتقد. مرة كتب يقول: عندما أكتب أن الوزير (الفلاني) مخطئ، تأتي لي رسالة يقول فيها صاحبها: كيف تقول إنه مخطئ؛ إنه كلبٌ... وابن كلب!
ما أكثر الكلاب السائبة والضالة والجرباء، في أوطاننا المنهوبة؟!