منذ أشهر قليلة، افتتح في "كلية العلوم الاجتماعية" بجامعة تل أبيب الإسرائيلية "مركز الدراسات الروسية" (CRS)، تحت عنوان "إجراء دراسة شاملة للمستقبل المحتمل لروسيا بناء على تحليل أحداث ماضيها القريب"، وبالتحديد الحقبة المعاصرة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ووضع سيناريوهات للتنمية والإصلاحات في فترة "ما بعد بوتين".
في حين يرى الخبراء أن الهدف الحقيقي لتأسيسه هو "تشكيل ملامح روسيا الجديدة الموالية للغرب في حالة حدوث انقلاب في البلاد". وبالتالي فإن مهمته الرئيسية تتلخص في صياغة مبادئ مؤيدة للغرب تروج لـ"روسيا المستقبل الواعد"، و"روسيا الجميلة"، تمهيداً لنشره واعتماده في الكرملين حينما تضعف سيادة روسيا ومناعتها ضد الأفكار الغربية.
المثير أن بين ممولي مركز الدراسات الروسية يبرز اسم كان على الداوم إشكالياً ومحل جدل واسع على مدار أكثر من ثلاثة عقود، وهو أناتولي تشوبايس، والذي ذكرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية أنه حصل على الجنسية الإسرائيلية في الربيع الماضي.
مهندس أكبر عملية نهب
تشوبايس يهودي الديانة، يقود اللوبي اليهودي في روسيا، ولديه علاقات وثيقة مع رموز عالم الظلام في روسيا وإسرائيل. كان من الحاشية المقربة للرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين، وشغل عدة مناصب بارزة، أهمها النائب الأول لرئيس الحكومة الروسية عام 1997. بين مطلع وأواسط التسعينيَّات من القرن الماضي، وبدعم من أعلى الدوائر السياسية في الدول الغربية، قاد عمليات خصخصة واسعة، أطاحت بثروات البلاد وأصولها السيادية، وأدت الى تركز الثروة بشكل كبير في يد "أوليغارشية" حديثة ومحدودة من المضاربين والمغامرين.
اتهمه سياسيون وبرلمانيون روس بـ"نهب الملكية الوطنية" وبـ"بيع روسيا لصندوق النقد الدولي". وبسبب عمليات الخصخصة هذه، لا تزال لعنات الشعب الروسي تطارد تشوبايس حتى اليوم. في عام 2007، أظهر استطلاع للرأي أن أكثر من 77 بالمئة من الروس ينظرون الى الخصخصة على أنها "أكبر عملية نهب في القرن العشرين"، ويطالبون بـ"إعادة النظر بنتائجها".
عقب انتخابه رئيساً للجمهورية عام 2000، قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعملية تطهير واسعة لإدارات الدولة الروسية ومؤسساتها من المتعاونين مع أميركا، والمروجين لـ"الليبرالية الغربية"، استثنى منها تشوبايس، انطلاقاً من وفائه المعروف عنه لحلفائه، حيث عمل الاثنان سابقاً ضمن فريق عمدة "لينينغراد" أناتولي سوبتشاك، والذي قاد عملية إعادة الإسم التاريخي للمدينة "سان بطرسبورغ".
في نيسان (أبريل) 2013، وخلال كلمة له للأمة الروسية، قال بوتين: "الجميع في روسيا يعرف أن أناتولي تشوبايس هو من ترأس الهيكل الذي قاد عملية نهب البلاد وتدمير المؤسسات، وكان هناك ضباط من وكالة الاستخبارات الأميركية (CIA) يعملون ضمن حاشيته".
نقطة تحول في تاريخ يهود روسيا
مع ذلك، تولى تشوبايس الإشراف على إدارة شركة "روس نانو"، المملوكة من الدولة، والمسؤولة عن تطوير الصناعات الحديثة بالاعتماد على تقنية" النانو". وفي عام 2020 عينه بوتين مبعوثاً شخصياً لشؤون البيئة والعلاقات مع المنظمات الأجنبية.
لكنه لم يكن من الدائرة المقربة لبوتين، وكان محدود الصلاحيات، ولا دور له في عملية صنع القرار. يشير خبراء روس الى أن بوتين أبقى على تشوبايس ليكون قناة تواصل ثنائية الأبعاد، مع الغرب الليبرالي، ومع اليهود وإسرائيل. لكن الأخير قدم استقالته من مهامه في آذار (مارس) 2022، واحتفت به كثيراً وسائل إعلام الغرب، على اعتبار أنه أرفع مسؤول روسي يستقيل بسبب الحرب في أوكرانيا.
اللافت أن وسائل الإعلام الغربية قامت بتلميع صورته، حيث تجاهلت سيرته الذاتية الإشكالية، وقدمته على أنه واحد من أبرز رموز ثورة التحديث في روسيا، بما يعكس حجم الدعم الذي يحظى به من صناع السياسات في الغرب.
ظهور تشوبايس مرة جديدة في عالم الأضواء، إنما من بوابة معاداة ناعمة لموسكو، يعيد تسليط الأضواء على الموقف الملتبس لليهود الروس.
إذ تعد الحرب الأوكرانية نقطة تحول مهمة في تاريخ يهود روسيا، حسب توصيف العديد من الكتاب والمحللين الروس. على النقيض من دعم زعماء الديانات الرئيسية لقرار الرئيس الروسي فلاديمير تنفيذ ما يعرف بـ"العملية العسكرية الخاصة"، سارع الحاخام الأكبر لكنيس موسكو، بنحاس غولدشميت، الى مغادرة روسيا وأعرب عن معارضته للحرب، ودعا اليهود الى مغادرة روسيا.
الى ذلك تشير الإحصاءات الى أنه خلال العامين الماضيين غادر روسيا نحو 40 ألف يهودي، نصفهم الى إسرائيل، وهي نسبة عالية لمجتمع لا يتجاوز عدده 200 ألف نسمة. والنقطة المثيرة هي تركيبة موجة الهجرة هذه، فهي مليئة بالنخب الثقافية والإعلامية والفنية.
ازوداجية المعايير
المفارقة هي أن الكثير من يهود روسيا صرحوا بأنهم "لا يريدون العيش في بلد في حالة حرب مع جيرانه". في حين أن كل الفظائع التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي في غزة، واتهامات تنفيذ إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية، لم تثر إزعاج اليهود الروس الروس الذين أيدوا بالإجماع تقريباً العمليات العقابية الإسرائيلية الوحشية. الأمر الذي يعكس حجم ازدواجية المعايير لديهم.
ومن أبرز هؤلاء كبير حاخامات روسيا، بيريل لازار، الذي زار إسرائيل لتقديم الدعم للجيش الإسرائيلي على جبهة غزة، لكنه لم يتخذ موقفاً داعماً لموسكو في الصراع المستمر منذ سنتين ونيف، ولم يزر أبداً أي معسكر للجيش الروسي.
الى ذلك، يضم "مركز الدراسات الروسية" عدداً من الباحثين والخبراء، بعضهم من الروس الموالين للغرب، مثل الكسندر باونوف، الزميل في مؤسسة "مالكوم - كير كارنيغي" الأميركية، وعالم الاجتماع فيكتور فاخشتين، والخبير الاقتصادي ديمتري بوترين، والناقد الأدبي ألكسندر أرخانجلسكي.
وجرى تعيين إيتاي سند رئيساً للمركز، وهو باحث إسرائيلي وأستاذ في جامعة تل أبيب، درس في الجامعات الأميركية، وتشكلت مسيرته المهنية في مراكز الأبحاث الغربية التابعة للهياكل الاستخباراتية لأميركا ودول غربية أخرى. وتعتبر مراكز الأبحاث هذه إحدى الأذرع الغربية الناعمة التي تتولى مهمة صناعة التحولات في الرأي العام، والترويج للسياسات الغربية الجديدة.
وفقاً للخبراء، فإن اكتشاف "مركز الدراسات الروسية في إسرائيل" (CRS) يتيح التأكيد على أن الهدف الحقيقي للمشروع هو المراقبة السياسية للوضع الحالي في روسيا، وكذلك صياغة توصيات جديدة لاحتوائها استراتيجياً وجيوسياسياً من قبل دول الغرب.