ما نراه من تطورات متسارعة ومتناقضة معًا على صعيد العلاقات الإيرانية الأميركية يحيّر الكثيرين، ولكن المتابع لتفاعلات هذه العلاقات منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، يدرك تمامًا حقيقة مهمة أنتجتها هذه التفاعلات، وهي أنه كلما ازداد الضجيج الكلامي والتهديدات المتبادلة التي اقتربت في بعض الأحيان من التلويح بالحرب وتحريك القطع العسكرية وغير ذلك، كلما اقترب الطرفان من صفقة مهمة!
لا يمكن تجاهل خبرة الماضي في هذه العلاقات المعقدة، لاسيما في ظل موروث الخبرات والمهارات التفاوضية التي يمتلكها الدبلوماسيين الإيرانيين على اختلاف أسمائهم وخلفياتهم المهنية، وبالتالي ليس مفاجئًا أن نتابع حدثين متزامنين في هذا الملف أولهما يتصل بتعزيز الوجود العسكري الأميركي في منطقة الخليج العربي، والتصريحات الإيرانية الغاضبة التي ترد على هذا التحرك الأميركي، وثانيها يتعلق بالإعلان عن التوصل إلى صفقة تقضي بمبادلة مواطنين إيرانيين محتجزين في الولايات المتحدة بأميركيين محتجزين في إيران، والافراج عن مليارات الدولارات من الأموال الإيرانية المجمدة.
احتجاز السفن هو عنوان التصعيد الكلامي الذي يتزامن مع المفاوضات التي تجري وراء الكواليس بين طهران وواشنطن، وهي مسألة مفهومة تمامًا في ظل الضغوط المتبادلة والرغبة الشديدة لدى كل طرف في تعزيز موقفه التفاوضي من أجل انتزاع أكبر قدر من المكاسب والتنازلات من الطرف الآخر، وقد شاهدنا هذا السيناريو يحدث حرفيًا خلال العام الذي سبق التوصل إلى الإتفاق النووي (خطة العمل المشتركة) في 2015.
التفاوض حول صفقة تبادل السجناء يجري منذ أشهر عبر عدة وساطات ومحطات إقليمية ودولية، واعترف بها الجانبان الأميركي والإيراني، غير أن واشنطن كانت تحاول الإيحاء بأن هذه المفاوضات لا علاقة لها بالملف النووي، بينما تشير التصريحات الإيرانية إلى ترابط قوي بين الملفات جميعها في المحادثات بين الجانبين.
الإعلان عن وصول أكثر من 3 آلاف جندي أميركي إلى البحر الأحمر على متن سفينتين حربيتين عقب احتجاز إيران لناقلتي نفط، وتعزيز الحشد العسكري الأميركي في الممرات المائية والحيوية لتجارة النفط العالمية، تزامن تقريبًا مع الإعلان عن بدء تنفيذ صفقة تبادل المسجونين والافراج عن الأموال الإيرانية، في تحرك له دلالات سياسية بعضها يتعلق بالضغط على إيران ومحاولة كبح جماح دعايتها السياسية التي تروج لصفقة التبادل باعتبارها كسرًا لإرادة الولايات المتحدة وانتصارًا لإيران، وبعضها الآخر يتعلق بإرسال رسائل للداخل الأميركي، ولاسيما في ظل الجو المشحون الذي تعيشه الساحة السياسية الأميركية على خلفية محاكمة الرئيس السابق دونالد ترامب، والشكوك والتساؤلات التي تحيط بالانتخابات الرئاسية المقررة العام المقبل، حيث يريد البيت الأبيض الرد على من يتهمونه بالضعف والتراجع في مواجهة إيران وعدم القدرة على التصدي للتهديدات التي تمثلها للمصالح الاستراتيجية الأميركية.
إستراتيجية "العصا والجزرة" التي لجأت إليها الإدارة الأميركية الآن، وبعد سنوات من استبعاد مجرد التلويح بـ"العصا" واستبعادها ضمنًا في مواقف وتصريحات كثيرة أدلى بها مسؤولو إدارة الرئيس بايدن حصروا خلالها خيارات الإدارة في الدبلوماسية والإصرار عليها، هذه الإستراتيجية لن تحقق نتائج وربما لا ينتظر منها أي نتائج، وقد لا تكون سوى حركة في المكان للايهام بجدية البيت الأبيض في الرد على أي سلوك عنيف للنظام الإيراني.
عدم فاعلية الحزم الذي تريد الولايات المتحدة إظهاره في مواجهة السلوك الإيراني ليس فقط لأنه جاء متأخرًا، ولكن لأن إيران اكتسبت من الجرأة والقوة، مدعومة بالظروف والبيئة الدولية الراهنة، بحيث لم تعد تتعامل مع أي تصعيد أميركي بالدرجة ذاتها من القلق، فالنظام الإيراني يثق في أن البيت الأبيض سيتردد كثيرًا قبل التصديق على أي قرار يتعلق بالرد عسكريًا على أي سلوك إيراني، لذلك فإن طهران لم تتردد مطلقًا في الإعلان عن تزويد أسطول الحرس الثوري بطائرات مسّيرة وصواريخ يصل مداها إلى ألف كم، وحثت واشنطن على الإستعداد لعواقب أي تصعيد ضد إيران.
إرسال أكثر من 3 آلاف جندي أميركي وتعزيز الوجود العسكري الأميركي بالقرب من الممرات المائية الحيوية في الخليج العربي ومضيق هرمز يأتي بعد أن احتجزت إيران أو حاولت السيطرة على مايقرب من 20 سفينة ترفع علمًا دوليًا في تلك المنطقة خلال العامين الماضيين، وذلك بحسب بيانات الجيش الأميركي، في إطار تبريره للتعزيزات العسكرية الأخيرة، ولكن هذا التبرير هو بحد ذاته مدعاة للتساؤل عما تغير كي يتغير بالتبعية رد الفعل الأميركي، لاسيما أن التوقيت لا يبدو مناسبًا لأي تصعيد ضد إيران في ظل انشغال الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين بالحرب الروسية في أوكرانيا، فضلًا عن اقتراب استحقاق الانتخابات الرئاسية الأميركية ورغبة الرئيس بايدن في تفادي اثارة أي أزمات جديدة قد تعرقل فرص انتخابه لولاية رئاسية ثانية.
أبرز رسالة ينطوي عليها التحرك الأميركي الأخير، برأيي، هي محاولة إقناع حلفاء واشنطن الشرق أوسطيين بأن أي صفقة تعقدها الولايات المتحدة مع إيران لن تقف حائلًا دون التصدي لأي تهديد عسكري إيراني لحرية الملاحة أو لأمن المنطقة واستقرارها، لاسيما أن هناك قناعة ترسخت لدى الجميع بأن واشنطن لا تترجم أقوالها إلى أفعال فيما يتعلق بالرد على أي تهديد إيراني، والالتزام بواجبات الشراكة القائمة مع الحلفاء، وبالتالي يبقى السؤال هنا: إلى أي مدى سيقتنع هؤلاء الحلفاء، سواء دول مجلس التعاون أو إسرائيل، بأن الولايات المتحدة لا تزال حليفًا موثوقًا يمكن الإعتماد عليه؟