كان، ولا يزال، التضارب بين الأقوال والأفعال سمة مميزة للسلوك السياسي للنظام الإيراني الحالي منذ عام 1979، فقادة النظام، في كل مراحله منذ عهد الخميني حتى الآن، يتحدثون دوماً عن حسن الجوار ورغبتهم في التعاون الإقليمي وحرصهم على الأمن والاستقرار ويبدون قدراً "كلامياً" كبيراً من "النوايا الطيبة"، ولكن واقع الحال الذي يعرفه الجميع في منطقتنا يخالف تماماً كل هذه الأقوال الظاهرة، بل ويتنافر معها ويذهب في اتجاه مضاد لها. فالسلوك الإقليمي الإيراني زاخر بالعداء، الخفي والمعلن، لدور الجوار، ابتداء من إشهار فكرة "تصدير الثورة" ومحاولة تنفيذها بالفعل عبر حلقات متواصلة من التآمر والتدخلات المباشرة وغير المباشرة في شؤون دول الخليج العربية، وانتهاء بتزويد جماعة "الحوثي" اليمنية بالصواريخ والمسيّرات وربما خطط التنفيذ والدعم الفني اللازم لقصف منشآت نفطية في بعض دول مجلس التعاون الخليجي خلال الأعوام الأخيرة الماضية، مروراً بسلاسل متواصلة من حوادث الاعتداء والتحرش البحري بسفن النقل والشحن وناقلات النفط والتمدد الإستراتيجي في دول مثل العراق، وغير ذلك من ممارسات إيرانية يصعب حصرها بدقة في هذا الحيز الضيق.
وقد كنت ولازلت، أدرك أن التغيير الجوهري في القناعات والأفكار لم يطرق باب قادة النظام الإيراني، وأن أي تحول أو تغير في التوجهات ليس سوى تعبير عن سياسات تكتيكية مرحلية يجب أن تخضع لقياسات التطبيق على أرض الواقع، وعدم الاكتفاء بما يتردد على الألسنة من طيب الكلمات والتصريحات الإيرانية. قناعتي كذلك أن السياسة عموماً ليس فيها ما يمكن تسميته بالتفتيش في النوايا ولا البحث في ما وراء الكلمات والتنقيب في القلوب، فنحن نتحدث عن مواقف وسياسات رسمية لدول وحكومات والفيصل فيها مايعلن ومايتم تنفيذه، وبالتالي فالموضوعية تقتضي القول بأن التقارب الأخير بين دول مجلس التعاون الخليجي وإيران هو خطوة براغماتية جيدة من جانب هذه الدول في إطار البحث عن الأمن والاستقرار في منطقتنا، ولاسيما أن هناك توجه إيراني مُعلن في نفس الاتجاه.
المعضلة فيما سبق أن النظام الإيراني يؤمن بمبدأ "كل شيء أو لاشيء" ولا يطبق السياسة كما نفهمها جميعاً، ولا يعمل وفق قاعدة "رابح رابح"، التي تضمن بيئة توافقية حقيقية لتسوية أي خلاف وانهاء أي توترات، ومن ثم فلا عجب أن نرى تقارباً إماراتياً إيرانياً على الصعيد الرسمي، وزيارات متبادلة وتصريحات هادئة تتحدث عن واقع جيوسياسي جديدة في العلاقات الإقليمية، وفي الوقت ذاته نفاجىء بمناورات عسكرية يجريها الحرس الثوري الإيراني على أرض إحدى الجزر الإماراتية التي تحتلها إيران، وهي جزيرة "أبوموسى"، فضلاً عن حشد قطع بحرية وقوات أخرى في محيط جزيرتي "طنب الكبرى" و"طنب الصغرى"، بحسب التقارير الإعلامية الإيرانية، وكأن القادة العسكريين الإيرانيين لم يجدوا سوى هذه الجزر الإماراتية المحتلة لإجراء مناورات عليها وهم يعلمون تماماً معنى ذلك بالنسبة لدولة الإمارات وشعبها، ويدركون ما ينطوي عليه الحدث من رسائل ودلالات لا تخفى على عين متابع أو مراقب!
هل هناك إيرانيّن، هل يتحدث الخليج مع إيران الرسمية، في حين أن هناك إيران أخرى تكمل مسيرتها وسلوكها وفق قواعد لعبة أخرى غير تلك التي تتطلبها التغيرات الجيوسياسية الإقليمية الأخيرة؟ وبمعنى آخر هل يتحرك الحرس الثوري الإيراني وقادته بمعزل عن سياسات الحكومة الإيرانية؟ على حد علمي كمراقب فإن هرمية النظام الإيراني بمختلف أجنحته ومؤسساته، الثورية والرسمية، تتبع مباشرة للمرشد الأعلى وتأتمر بأوامره، وليس هناك في حقيقة الأمر ما كان يسميه بعض الباحثين والمتخصصين بصراعات الأجنحة وغير ذلك، والأمر كله لا يعدو سوى أن يكون مقاربات مختلفة في معالجة القضايا والموضوعات والملفات تحت مظلة ولي الفقيه.
الأمر إذا ليس محيّراً للدرجة التي قد يتصورها البعض، وليس هناك رسائل إيرانية متضاربة ولا شيء من هذا القبيل، ولكن هناك بالتأكيد "مخاتلة" واضحة في السلوك الإيراني، ومسافة فاصلة بين الأقوال والأفعال، وهي مسافة متعمدة تماماً، ويعمل النظام على توظيفها إستراتيجيًا لإبتزاز أو إنتزاع كل مايريد من مكاسب ويحقق ما يسعى إليه من أهداف.
التدريبات العسكرية التي أجراها مؤخراً الحرس الثوري على أرض جزيرة "أبوموسى"، والزج بالجزر الإماراتية المحتلة تحديداً، كموقع للتدريبات، في إطار المناوشات الخطابيه المتبادلة مع الولايات المتحدة، التي تقوم بتعزيز وجودها العسكري في مياه الخليج العربي لحماية مصالحها وسفنها التجارية، يمثل هذا الإجراء الإيراني إفتئاتاً جديداً على حقوق دولة الإمارات العربية المتحدة في جزرها المحتلة، ولا يعكس أي روح أو رغبة إيرانية في تنقية الأجواء مع الإمارات بشكل جاد، ولو من خلال تجنب المساس بموضوع الجزر المحتلة لحين البت فيها والتوصل إلى تسوية سلمية بشأنها.
مناورات أو تدريبات "الاقتدار" التي أجرتها بحرية الحرس الثوري الإيراني في جزيرة أبوموسي المحتلة وفي محيط جزيرتي "طنب الكبرى" و"طنب الصغرى" هي رسائل تحمل نوايا سلبية من الجانب الإيراني بغض النظر عن أي تحركات دبلوماسية قد تبدو ايجابية في ظاهرها، فرسائل المناورات التي أطلقها قائد الحرس الثوري الجنرال حسين سلامي وقائد بحرية الحرس الجنرال على رضا تنكسيري تبدو مغايرة لما ورد على لسان الجنرال سلامي بشأن البحث عن الأمن والاستقرار، وكذلك فإن حديثه عن "الفتن والسيناريوهات الغامضة" و"الأحقاد" وغير ذلك هو خطاب ملتبس وحمّال أوجه، لاسيما أن الجنرال تنكسيري زج بالجزر الإماراتية من دون داع في تصريحاته خلال المناورات وقال إن "الجزر الإيرانية هي نواميس للشعب الإيراني ونحن مكلفون بالدفاع عنها، ولن نتوانى عن ذلك"، وأن "هذه الجزر جزء أبدي من تراب الوطن"، وأن أمن منطقة الخليج "يعود بالنفع علينا جميعاً"، مشيراً إلى أن "جميع الدول تبدي الحساسية تجاه حدودها وثغورها"، متناسياً أنه يقف على أرض جزر محتلة، وأن المؤامرات الأجنبية التي يتحدث عنها في الخليج العربي، إن وجدت، فهي تقتات على هذه الإزدواجية المقيتة في المواقف والسلوك الإيراني.
الإدارة الأميركية تسعى إلى معالجة أخطاء سياستها وترميم صورتها الذهنية، وعلى الجانب الآخر فإن النظام الإيراني يسعى لتجييش عواطف الداخل واعادة الاصطفاف الداخلي بعد كل ماحدث في العامين الماضيين، وذلك في إطار لعبة "عض أصبع" وتصعيد محسوب لمنسوب التوتر، ولكن طهران لا تدرك أن سلوكها وخطابها في إطار هذه اللعبة المحسوبة، تغامر كذلك بالمكاسب التي تحققت على صعيد التقارب مع دول الجوار خلال الآونة الأخيرة.