: آخر تحديث

إعتقال "الحمير" لأسباب سياسية

85
78
59
مواضيع ذات صلة

نشر الكاتب الأستاذ الدكتور وريا عمر أمين في صفحته الرسمية بموقع (فيسبوك) مقالا حول حدث غريب وقع عام 1963 في مدينة أربيل أثناء إندلاع الثورة الكردية ضد النظام الحاكم آنذاك.

ونظرا لطرافة المقال الذي نشره الكاتب استذكارا لذلك الحدث الغريب، أردت ترجمته إلى اللغة العربية لإطلاع القاريْ على أسلوب التفكير الغريب وغير المنطقي لتعامل أنظمة الحكم في العراق مع قضية الشعب الكردي وثورته من أجل حقوقه الوطنية والقومية المشروعة.

يقول الكاتب "شهد عام 1963 حادثة غريبة وطريفة وقعت في مدينة أربيل عرفت في وقتها بـ"الإعتقال الجماعي للحمير". وهي حادثة قل نظيرها في تاريخ الأمم والشعوب ولا يمكن حدوثها في أي بلد بالعالم، وعليه فإن هذا الحدث يستحق أن يدخل موسوعة جينيس العالمية للأرقام القياسية نظرا لطرافتها وغرابتها وانفراد النظام العراقي بها".

مما لاشك فيه أن الكثيرين من أبناء مدينة أربيل من المعمرين يتذكرون هذا الحدث، وأطلب من كل الذين عاشوا في تلك الحقبة أن يكتبوا ذكرياتهم عن ذلك الحدث وينشروها لكي يطلع العالم كله على ما عاناه الشعب الكردي على يد أنظمة الحكم المتعاقبة على العراق.

ففي ذلك العام شهدت مدينة أربيل حملة إعتقالات واسعة استهدفت حمير المدينة، بما فيها الوافدة إلى المدينة لنقل البضائع. وتم وضع جميع هؤلاء الحمير في سجن المدينة الكائن مقابل مبنى محافظة أربيل الحالي. وكانت التهمة هي قيام الحمير بنقل المواد الغذائية إلى قوات البيشمركة المتحصنين في الجبال إضافة إلى إستخدامها في الأعمال اللوجستية الأخرى لقوات الثورة.

وبنتيجة ذلك توقفت الحياة تماما في المدينة آنذاك، لأن جميع الأعمال تعطلت نسبيا. فلم يكن هناك حمير لنقل الخضروات (الفجل والسلق والكرفس والبصل واللبن والجبن) التي كانت ترد إلى المدينة سواء من البساتين أو من القرى المحيطة بالمدينة. كما توقف تشغيل المطاحن التي كانت تنقل الحبوب إليها على ظهر الحمير، وكساد عمل باعة النفط والحطب الذين كانوا يجولون محلات المدينة وحميرهم. ناهيك عن توقف أعمال الاسكافيين وصانعي السروج والحمالين. وتوقفت أيضا عمليات البيع والشراء في ميدان الحيوانات. ولكن بالمقابل إزدهرت أعمال باعة التبن والشعير الذين نقلوا نشاطهم إلى مقربة من ذلك السجن على غرار باعة الفواكه والخضروات الذين من العادة أن يتجمعوا أمام المستشفيات.

وكان عدد الحمير حوالي ألف حمار معتقل في السجن. وكان أصحابها يقفون منذ الصباح وحتى ساعات المغرب في طابور أمام السجن يحملون بأيديهم أكياس التبن والشعير عسى أن تسمح لهم السلطات بمواجهة حميرهم بغرض إطعامهم داخل السجن.

أما عن أوضاع الحمير داخل السجن فقد بدا مريحا لهم وكانوا سعداء جدا بالاعتقال، كونهم قد تخلصوا من عذاب حمل الأثقال على ظهورهم وجر العربات في الأزقة والضرب على بطونهم، إلى جانب تحرشات أطفال المحلات بهم. فلم يعش هؤلاء الحمير بمثل هذه الأجواء السعيدة والمفرحة طوال حياتهم. ولذلك كانوا يعبرون عن فرحتهم بإطلاق النهيق والرفس وكانت أصواتهم تشبه إلى حد ما بالمقطوعات الموسيقية التي تعبر عن مباهج الحياة وسعادتها.

كنا في ذلك الوقت مجموعة من الأصدقاء في مرحلة الثانوية. وكنا نتجمع بعد إنتهاء دوام المدرسة أمام ذلك المكان لنرى هذه المشاهد الطريفة ونتجول بين أصحاب الحمير نصغي إلى أحاديثهم وهم يبثون همومهم الواحد للآخر. ويبدو أن الشاعر والكاتب الصحفي محمود زامدار أصبح منذ ذلك اليوم متيما بالحمير، فقد رأيته منشرحا وسعيدا بالمنظر بل وكان يشعر بالسعادة أكثر منهم.

اختلطت أحاديث الناس في ذلك الوقت بين هموم أصحاب الحمير وبين تعليقات ونكات الناس إزاء ما يحدث، فالكل أصبح يتحدث عن الحمير وما يجري لهم.

وأتذكر أنه في يوم من الأيام غاب تلميذان عن الصف، فلما قرأ المعلم اسميهما صاح طالب في الصف قائلا "أستاذ. هؤلاء من جيراننا، وقد ذهبوا إلى السجن لمواجهة حميرهم"!.

ومن الطرائف أيضا، أن أحد الأشخاص أخفى حمارا له في غرفة ببيته، وفي أثناء الليل نهق الحمار بصوت عال، فإنكشف أمره فسيق مع حماره إلى السجن، وبعد فترة تم إطلاق الحمار لكن مصير صاحبه مازال مفقودا حتى اليوم!.

وكان هناك شخص إسمه "عزيز، أخذ حماره معه إلى واد وأخفاه هناك فعرف لاحقا بلقب "عزيز مهرب الحمار" وظل هذا اللقب لصيقا به طوال حياته!.

وبعد مرور إسبوع على تلك الحملة حاولت السلطات المحلية تدارك الأمر وتفاقم الوضع، فأعلنت بأن على أصحاب الحمير جميعا أن يكتبوا عرائض إلى السلطات يتعهدون فيها بعدم إستخدام حميرهم لأغراض غير قانونية حتى يتم الإفراج عنها، وهذا ما فتح أبواب الرزق أمام كتاب العرائض هذه المرة، فكنت ترى المئات من أصحاب الحمير يتجمعون حول كتاب العرائض كعش الزبابير، ولكن المصورين الذي كانوا على مقربة من كتاب العرائض طالبوا أيضا بلصق صورة الحمار على العرائض المرفوعة إلى السلطات لكي تزدهر أعمالهم أيضا.

وكان بين الحشود المتجمعة حول العرضحالجي رجل مسن لا يستطيع إختراق صفوفهم والوصول إلى كاتب العرائض، فطلب من أحد الأشخاص أن يكتب له عريضته عوضا عنه، فكتب هذا عريضة قال فيها: "حضرة السيد متصرف لواء أربيل المحترم.. منذ ستة أيام وحماري معتقل لديكم. وأنا أحلف لكم بالنيابة عن حماري بأنه لا علاقة له مطلقا بأي طرف وهو بريء من أي عمل سياسي. فهو حمار ودود وهاديء وخدوم ولم يرفس أو يعظ أحدا بحياته. وهو مصدر رزقي وأولادي. فأرجو من سيادتكم أن تنظروا إليه بعين الرأفة والرحمة وتطلقون سراحه".! وبعد أن قدم تلك العريضة إلى المتصرف أعتقل هو فنسي مصير حماره!!!

وبعد ذلك قدم معظم أصحاب الحمير عرائضهم وتعهداتهم إلى السلطات، فتم إصدار عفو عام عن جميع الحمير. وكان الوقت عصرا حين فتحت أبواب السجن لخروج الحمير، وتزاحمت مئات الحمير للخروج من السجن ومرت بصف طويل من أمام مطبعة موكرياني بإتجاه شوارع المدينة، وكان الكبرياء والفخر وملامح السعادة بادية على وجوه الحمير المحررين كأنهم سجناء رأي أو من معارضي السلطة، وتقاطر أصحاب الحمير إلى المكان يبحث كل منهم عن حماره. فهذا يعانق حماره وذاك يقبل رأسه، وكان بعضهم يبكي لما عاناه حماره. في وسط هذا المشهد اصطف الناس حول جانبي الشوارع يحيون مسيرة الحمير، وبعض شباب المدينة يقفون هناك ملوحين للحمير بشارات النصر ويؤدون لهم التحية العسكرية كأنهم أبطال!!.

أما الحمير فمن عثر عليه صاحبه أخذه معه، ومن لم يجد له صاحبا إنتشر في أزقة المدينة ومحلاتها.

وأطلب أن يتم تكريم ذلك الحدث بجعل ذلك اليوم عيدا للحمير نحتفل به كل عام ونقيم مهرجانا بهذه المناسبة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.