: آخر تحديث

الحرب السرية بين إسرائيل وإيران

65
67
55

طيلة السنوات الأخيرة، لم تهدأ يوما عمليات التخطيط للحرب السرية الدائرة بين إسرائيل وإيران، وأحدث جولات هذه الحرب جاءت خلال إعلان جهاز الإستخبارات الاسرائيلي أنه نفذ عملية في إيران قبض خلالها على مشتبه بقيادته لفرقة إغتيال خططت لاغتيال إسرائيليين في قبرص. وقال "الموساد" إن المشتبه به أدلى باعتراف مفضل بالأوامر التي تلقاها من الحرس الثوري الإيراني.

هذا الإعلان ينطوي على إشارات مهمة أولها أن الإعلان جاء بشكل مباشر من خلال جهاز "الموساد" نفسه، ولم يظهر للعلن بطريق غير مباشر عن طريق تسريبات متعمدة أو غير ذلك، وهو ما يعكس تكتيكياً واضحاً لجهاز الاستخبارات الإسرائيلي بالظهور للعلن في بعض العمليات التي يتم تنفيذها وذلك من أجل تحقيق أهداف إستراتيجية محددة للطرف الآخر (إيران)، قد يكون من بينها تأكيد الرسالة ووضوح الهدف وقدرة إسرائيل على الرد والردع معاً. ثاني هذه الإشارات هو إستمرار الإختراقات النوعية التي تقوم بها إسرائيل في الداخل الإيراني، وهو مايعكس إستمرار الضعف والهشاشة التي تعانيها بنية الأمن الداخلي الإيراني، فضلاً عن إثبات قدرة إسرائيل على التفوق إستخباراتياً على الجانب الإيراني، بكل ما يعنيه ذلك من معان ودلالات ولاسيما فيما يتعلق بكشف فكرة التفوق والذراع الطولى التي يروج لها الحرس الثوري الإيراني.

ثالث هذه الإشارات تتعلق برغبة الحكومة الإسرائيلية في النأي بنفسها عن أي تهدئة يتم التوافق بشأنها بين واشنطن وطهران، وترسيخ فكرة المسار الاسرائيلي المستقل (ولو ظاهرياً) في التصدي للتهديدات الإيرانية. وهذه الإشارة التي تتزامن مع الحوار الأمريكي ـ الإيراني الذي يدور عبر وسطاء إقليميين ترسخ لدى طهران فكرة القبول بأن إسرائيل غير معنية بالفعل بما قد يتم التوصل إليه عبر هذا الحوار، وأنها ستعمل على ضمان أمنها واستقرارها بالوسائل والطرق التي تراها مناسبة لها. ونرى أن هذه الإشارة مهمة للغاية في ظل قناعة الجانب الإيراني بامكانية جذب واشنطن بعيداً عن إسرائيل فيما يخص المصالح الإستراتيجية الأمريكية، ويرى أن الولايات المتحدة لم يعد لديها القدرة والفاعلية والإرادة لمواصلة ضمان أمن الحلفاء الشرق أوسطيين بما فيهم إسرائيل، حيث إختبرت إيران هذه الفرضية بالفعل بالنسبة لحلفاء واشنطن الخليجيين وثبتت صحتها، بل واختبرتها أيضاً في مواضع صغيرة عبر وكلاء لها في سوريا ولبنان ولم تثبت واشنطن عكس القناعة الإيرانية في هذا الشأن. الإشارة الرابعة في هذا الإطار تكمن في موضوع هذه الجولة من الحرب السرية وهو حرب الإغتيالات التي ينفذها الحرس الثوري ضد إسرائيليين في الخارج، فالمتعارف عليه أن العمليات الاستخباراتية التي تقوم بها إسرائيل داخل إيران تركز إجمالاً على المنشآت النووية وتقويض عمليات تخصيب اليورانيوم، ولكن القبض على مشتبه بتورطه في عمليات قتل محتملة ضد إسرائيليين يشير إلى أن الصراع مع إيران لا يقتصر فقط على الملف النووي، وأن هناك أوجه ومظاهر وجوانب أخرى عديدة للتهديدات الإيرانية منها إستهداف شخصيات إسرائيلية في الخارج، مايلفت انتباه الرأي العام والدوائر الأمريكية والغربية لشمولية التهديد الإيراني، وإثبات صحة الخطاب السياسي الإسرائيلي القائم على ضرورة الإنتباه لتعدد جوانب الخطر الإيراني. فضلاً عن أن مثل هذه العملية هي عمل إستباقي يستهدف في أحد جوانبه ردع عمليات إيرانية أخرى محتملة في ظل تكرار التحذيرات الأمنية من إستهداف إيراني لشخصيات إسرائيلية في دول عدة منها تركيا وبعض دول المنطقة الأخرى.

بلاشك أن القناعة الإيرانية بأن الولايات المتحدة تمر بمرحلة تراجع استراتيجي ونفوذها إلى أفول ولم يعد لديها الإرادة والقدرات الكافية لحماية حليف بحجم إسرائيل، هي قناعة مصطنعة لا تصمد أمام أي تحليل موضوعي، كونها تنطلق من حسابات إستراتيجية غير دقيقة لأن إسرائيل بالنسبة للولايات المتحدة ليست كأي حليف إستراتيجي آخر، والإيرانيون يعلمون ذلك جيداً، ولكنهم يفضلون دائماً إختبار مثل هذه الفرضيات في الواقع الفعلي. فالمؤكد أن الدولة الوحيدة في العالم التي يمكن أن تتوافق جميع دوائر صنع القرار والمؤسسات السيادية الأمريكية على حمايتها والتدخل من أجل ضمان ذلك هي إسرائيل من دون منازع، لأسباب بعضها يتعلق بالحسابات الانتخابية، وبعضها الآخر يتعلق بتأثير اللوبي القوي الموالي لإسرائيل في الداخل الأمريكي، ويعزز من هذا وذلك تراجع روابط الشراكة بين واشنطن وشركائها الشرق أوسطيين بحيث لم يعد لها حليف موثوق إقليمياً سوى إسرائيل بغض النظر عن هوية الأحزاب أو الشخصيات الحاكمة. 

أحد أبرز الجوانب اللافتة في هذه الحرب السرية أو حروب الظل المحتدمة بين إسرائيل وإيران هو حرص إسرائيل المتكرر على إثبات قدرتها على الوصول للعمق الإيراني، حيث تأتي العملية الأخيرة بعد سنوات من سرقة حوالي نصف طن من الملفات السرية الخاصة بالبرنامج النووي الايراني من قلب طهران عام 2018، وهي إحدى العمليات التي تم التكتم عليها إيرانياً بشكل كامل، وورد في هذه الملفات اسم العالم النووي الإيراني البارز محسن فخري زادة، وبعدها بعامين وفي عام 2020 تم إستهداف فخري زادة بتقنيات حديثة قرب سكنه في داخل إيران.

إختراق إسرائيل للداخل الإيراني له شواهد ودلائل عديدة، والجديد فيه هو تخلي الإستخبارات الاسرائيلية تكتيكياً عن التكتم والسرية والحديث علناً عن عملياتها في الداخل الإيراني، ونعتقد أن جزءاً كبيراً من هذا التوجه ينطلق من رغبة إسرائيلية في تعميق الشعور بالخوف والقلق والشكوك لدى المسؤولين الإيرانيين، من إمكانية أن تطالهم يد إسرائيل الإستخبارية، وهو ماسبق أن نبه إليه وزير الإستخبارات الايراني السابق علي يونسي حين حذر من تنامي نفوذ الموساد الاسرائيلي في أجزاء كثيرة من البلاد، مشيراً إلى شعور أعضاء القيادة الإيرانية بالقلق على حياتهم وأمنهم وسلامتهم، وهو ما نعتقد أن الموساد يريد ترسيخه بالفعل لدى القادة والمسؤولين الإيرانيين، تعزيزاً لاستراتيجية الردع وإجبار إيران على التراجع عن استهداف إسرائيل والإسرائيليين خشية أن يدفع من يقف وراء ذلك الثمن يوم ما.

نظرية التفوق الاسرائيلية تقف في مواجهة الشعور التفوق الذي يتنامى لدى إيران في السنوات الأخيرة، وتحديداً منذ التطور النوعي في ترسانتها العسكرية، ولاسيما على صعيد الطائرات المسّيرة من دون طيار التي اعتمدت عليها روسيا جزئياً في حرب أوكرانيا، وعلينا أن ننتظر المزيد من جولات الحرب السرية حتي يقتنع أحد طرفي هذه الحرب بأن الأثمان المدفوعة لا توازي المكاسب المحققة فيها.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.