"فاغنر" مستمرة وتتوسع وتنتشر، هذه هي الخلاصة التي يمكن لأي مراقب أو متخصص استنتاجها مما دار بشكل معلن أو وراء الكواليس منذ أحداث تمرد الرابع والعشرين من يونيو 2023، فكل الشواهد والمؤشرات تصب في خانة الابقاء على المجموعة المسلحة التي بات مؤكداً أنها ممولة بالكامل من الخزانة الروسية. معضلة "فاغنر" بالنسبة للقادة والمسؤولين الروس وحتى بالنسبة للرئيس البيلا روسي الكسندر لوكاشينكو ليست في نظام عملها بل في حدود الرقابة والسيطرة عليها، حيث قال لوكاشينكو "الدرس مما حدث؟ إن أنشأنا مجموعات مسلحة كهذه، علينا أن نراقبها وأن نبدي اهتماماً جاداً بشأنها"، وعلينا أن نتذكر أن ذروة الصدام مع "فاغنر" قد بدأت حين تصاعدت انتقادات زعيمها يفغيني بريغوجين ضد كبار القادة العسكريين الروس، وتحديداً وزير الدفاع ورئيس الأركان، اللذين اتهمهما بضعف الكفاءة والمهنية.
الواضح أن أداء "فاغنر" في حرب أوكرانيا قد كشف إلى حد ما جوانب القصور في الجيش الروسي، ووضع القادة العسكريين للجيش في مأزق صعب أمام الكرملين، وهو ماتسبب لاحقاً في وقف الإمدادات التسليحية للمجموعة ومن ثم أثارة غضب زعيمها وانتهي بقصف جوي روسي لأحد معسكرات عناصرها في أوكرانيا. التوجه السائد لدى بعض الأطراف ومنها بيلا روسيا هو الإبقاء على "فاغنر" والحفاظ على قوامها الأساسي مع ميل للابقاء على استقلالها بعكس وجهة نظر وزارة الدفاع الروسية التي اتجهت في الآونة الأخيرة إلى دمج أي ميلشيات خاصة للعمل ضمن الإطار الرسمي للقيادة العسكرية الروسية، وهو ما يعد أحد الأسباب الظاهرية لغضب زعيم "فاغنر" يفغيني بريغوجين.
ماذا عن تعهد الرئيس بوتين بدمج "فاغنر" في القوات المسلحة الروسية؟ الحقيقة أنه لم تعلن بعد أي إجراءات لتنفيذ هذا التعهد ولا تزال أنشطة "فاغنر" الخارجية على الأقل تمضي دون أي تغيير، ولكن بالنهاية فإن بوتين هو من سيقرر مصير هذه المجموعة غير الرسمية لأنها أداة رئيسية لتنفيذ طموحاته الاستراتيجية الخاصة باستعادة النفوذ الروسي عالمياً، واسناد قيادتها إلى "طباخه" الخاص يفغيني بريغوجين ليس مصادفة، بل يعكس قدراً عميقاً من الثقة في قدرات الرجل الذي نجح بالفعل في جعل "فاغنر" إحدى أخطر أدوات التأثير الروسي في مناطق عدة من سوريا إلى إفريقيا.
"فاغنر" لم تعد مجرد مجموعة عسكرية تعمل بالوكالة لمصلحة روسيا، بل أصبحت أداة رئيسية من أدوات التأثير الروسي في مناطق عدة، ولاسيما في القارة الأفريقية حيت تتواجد عناصر "فاغنر" في نحو ثلاثين دولة، بحسب تقارير غربية، منها 10 دول إفريقية للقيام بأدوار ومهام مختلفة ابتداء من القيام بأعمال الحراسة الشخصية لزعماء بعض الدول، وانتهاء بمكافحة تنظيمات الإرهاب والتطرف في دول إفريقية عدة، مروراً بالمشاركة في الصراعات المسلحة الدائرة في دول مثل سوريا.
بحسب التقارير الإعلامية، فقد سارعت روسيا إلى طمأنة شركائها الأفارقة بشأن استمرارية عمل "فاغنر" بعد أحداث التمرد، مع انتقال قيادتها من زعيمها يفغيني بريغوجين إلى قادة روس رسميين، الأمر الذي يعكس أهمية دور "فاغنر" في أفريقيا بالنسبة للكرملين سواء على صعيد ترسيخ النفوذ الروسي الإستراتيجي في مواجهة التغلغل الغربي، وفي إطار الصراع العالمي على الهيمنة والنفوذ، أو في إطار كونها باتت مورداً مهماً للأموال، حيث تشير تقارير إعلامية إلى أن شركات "فاغنر" تحقق مئات الملايين من الدولارات سنوياً في أفريقيا، بما فيها من صادرات ذهب السودان إلى ألماس جمهورية أفريقيا الوسطى إلى حراسة النفط السوري، وهي مصدر مهم للتمويل للحفاظ على نفوذ روسيا في القارة وتمويل العمليات في أوكرانيا.
إحدى النقاط المحورية في انتقال تبعية مجموعة "فاغنر" إلى الدولة الروسية تكمن في تحمل مسؤولية تصرفات المجموعة، حيث أقر الرئيس بوتين رسمياً بأن الدولة الروسية كانت تمول المجموعة لفترة الاثنى عشر شهراً المنتهية في مايو الماضي، وهذا قد يفتح الباب بالتبعية إلى تحمل المسؤولية القانونية عن الأحداث التي ارتبطت بها "فاغنر" في مختلف الدول والمناطق التي تتواجد فيها، ولكن يبدو أن الكرملين لم يعد يكترث لمثل هذه الأمور لاسيما بعد أن تمادت الدول الغربية في العداء مع روسيا حتى أن المحكمة الجنائية الدولية استهدفت الرئيس الروسي بوتين نفسه، واصدرت مذكرة توقيف بحقه في مارس الماضي ما عكس اتساع دائرة الشقاق بين روسيا والغرب، وأسهم في دفع الكرملين للتخلي عن أي حذر سواء في التعاطي مع ملف "فاغنر" أو غيرها .
بغض النظر عن صيغة العلاقة التي تريدها موسكو مع "فاغنر"، فإن المجموعة ستبقى في جميع الأحوال لأن تفكيكها ليس خياراً مطروحاً ولا يصب في مصلحة روسيا الاستراتيجية في الوقت الراهن، بعد أن توغلت المجموعة خارجياً بشكل لافت، وضمنت لروسيا هامش مناورة مؤثر في ملفات عدة، وأصبحت ركيزة من ركائز السياسة الخارجية الروسية في قارة إفريقيا والشرق الأوسط، ناهيك عن أن الكرملين بات يشعر بأهمية هذه المجموعة والحاجة إليها في ظل حالة عدم اليقين التي يشعر بها الكرملين تجاه أداء الأجهزة الأمنية والجيش الروسي.
المكاسب النوعية التي حققتها "فاغنر" منذ تأسيسها في عام 2014، للدولة الروسية ليست هينّة للدرجة التي يمكن معها التوجه نحو تفكيكها وانهاء دورها، فقد باتت عنصراً رئيسياً فاعلاً في حرب أوكرانيا، ونشطت في دول كثيرة، واتجهت إلى أنشطة اقتصادية مثل استخراج المواد الخام والتجارة فيها، ويمكن أن تكون رأس حربة مؤثرة تضمن حصول روسيا على ما تريد من المواد الحيوية مثل الذهب والسيليكون واليورانيوم وغيرهما، وتجارة العملات المشفرة والقيام بحملات التضليل الإعلامي وشن الحروب الهجينة بما يخدم السياسة الخارجية الروسية، وبالتالي من الصعب على الدولة الروسية التخلي عن هذه الأداة المؤثرة (فاغنر) لاسيما في ظل احتدام الصراع مع الغرب، ما يؤكد استمرارية دور "فاغنر" وأنشطتها الخارجية بأي صيغة من الصيغ، ولكن تبعيتها للدولة الروسية قد تبدو أكثر وضوحاً وربما يكون ارتباطها بالمصالح الاستراتيجية الروسية أكثراً عمقاً وتوسعاً خلال المرحلة المقبلة.