: آخر تحديث

الصين تدخل حلبة الحرب الأوكرانية: تسييس العسكرة أم عسكرة الديبلوماسية؟

38
35
37
مواضيع ذات صلة

الآن وقد دخلت الصين علناً وبالمباشر في الصراع بين الغرب وروسيا وتقدّمت بمبادرة في شأن الحرب الأوكرانية، لنستطلع آفاق المعادلة الجيوسياسية الكبرى بين واشنطن وبكين في ظل تحجيم روسيا وتحوّلها الى لاعب ثانوي في عملية اتخاذ القرارات العالمية. الصين تخشى من إلحاق الغرب الهزيمة التامة بروسيا لأن ذلك يسحب منها حليفاً مهماً في وجه الولايات المتحدة والغرب عامة، ويتركها بمفردها في الواجهة. لذلك دخلت الديبلوماسية الصينية هذا الأسبوع ساحة استرضاء واستقطاب الأوروبيين عبر مؤتمر ميونيخ للأمن، كما توجّهت الى الولايات المتحدة من الساحة الروسية بمبادرة ديبلوماسية لدى زيارة وزير الخارجية للتمهيد لزيارة الرئيس الصيني الى موسكو قريباً. فالصين تبحث الآن في سبل تجنّب الانجرار الى التصعيد ضد الولايات المتحدة وأوروبا في الحرب الأوكرانية، لذلك تقدّم نفسها على أنها ليست في هذا المعسكر أو ذاك بل هي جاهزة للعب دور الجسر بينهما- وهذا ما لا تصدّقه الولايات المتحدة. والسؤال هو، كيف ستتموضع الصين في زمن الصراع بين القطبين الأميركي والصيني إذا انهزمت روسيا؟ هل ستصبح "الضمانات" لغة النظام العالمي الجديد؟
 
 
الحرب بين روسيا من جهة والولايات المتحدة وأوروبا من جهة ثانية ليست حرباً عالمية، وإنما هي مواجهة عسكرية بين طرفين. روسيا لم تتمكن من حشد الدعم العالمي كما كان الاتحاد السوفياتي يفعل في زمن عالم القطبين والحرب الباردة. العالم قد يبدو منقسماً نحو الحرب الأوكرانية، جزء منه يستذكر غاضباً تاريخ الاستعمار الغربي والاستكبار الأميركي، وجزء آخر ينطلق من اعتراضه على غزو بلد لبلد آخر، كما فعلت روسيا في أوكرانيا. إنما في نهاية المطاف، ومهما فشلت الولايات المتحدة في إقناع الصين والهند وجنوب أفريقيا والبرازيل وغيرها بالانفصال عن روسيا، فإن هذه الحرب تبقى حتى الآن ثنائية وليست عالمية.
 
ما أفرزته الحرب الأوكرانية ليس في صالح روسيا. فلقد سَلبَ قرارُ الحرب الروسي من روسيا مقامَها كلاعبٍ عالمي وسحبها من معادلة العالم بثلاثة أقطاب: أميركا والصين وروسيا. باتت روسيا اليوم لاعباً اقليمياً أو محلياً وبقدرات محدودة. وهكذا، وكما قال صديق روسي تعبيراً عن أسفه على بلاده "لقد وصلنا الى نقطة اللاعودة وعبرنا الروبيكون" We crossed the rubicon.
 
لربما يعود بعض أسباب الثقة الأميركية في أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حفر لنفسه الحفرة التي أوقع نفسه فيها، هو الاستنتاج الأميركي بأن نظام الحكم الروسي بدأ يشبه نظام الحكم السوفياتي، وأن فلاديمير بوتين ليس قويّاً بالقدر الذي يدّعيه، وأن تلك كانت اللحظة المواتية لإضعافه أكثر، وما زالت.
 
الأولوية الأميركية هي للصين. الاستنتاج الأميركي هو أن الصين بلا روسيا تعني صيناً أضعف.
أما المخاوف من روسيا، فإنها دخلت قطعاً في الخانة النووية وليس في خانة التفوّق العسكري لروسيا. موسكو غير قادرة اليوم على حسم المعركة العسكرية لصالحها، ولا هي جاهزة للدخول في حوار أو مفاوضات بسبب مواقفها الحازمة نحو أوكرانيا، ولذلك إنها تتحدّث باللغة النووية.
 
البعض ينظر اليوم الى روسيا بصفتها دولة غير قادرة على تغيير العالم، إلا أنها دولة قادرة على تدمير العالم. هذا رأي، لكنه ليس بلا مبررات. إعلان الرئيس بوتين الثلثاء الماضي "تعليق" معاهدة "ستارت" -وليس إلغاءها- قد يبدو مطمئناً قليلاً لأنه لم يتخذ قرار إلغاء هذه المعاهدة المهمة في تخفيض الأسلحة النووية بين أميركا وروسيا. لكن المخيف هو أن بوتين ربط بين إعادة إحياء معاهدة ستارت وبين توقّف دول حلف شمال الأطلسي "ناتو" عن شحن الأسلحة الى أوكرانيا. أي ان استحالة الأمرين هي في الطليعة.
 
خطاب الرئيس فلاديمير بوتين كان واضحاً في العداء القاطع غير المسبوق للغرب وتحميله مسؤولية بدء الحرب الأوكرانية بسبب قرارات "ناتو" بتوسيع عضويته لتشمل أوكرانيا على الحدود الروسية. كان واضحاً أن أي تحدٍ لروسيا سيلقى إجابات عسكرية وليس سياسية. كان خطاباً حاسماً بأن لا حل سياسياً في الأفق، وأن الحرب مستمرة، وأن العالم سيكون في وضع أخطر وأكثر توتراً، وأن الخيار النووي على الطاولة بشكل أو بآخر.
 
الرئيس الأميركي جو بايدن، بزيارته المفاجئة الى أوكرانيا وباجتماعاته وتصريحاته وخطبه من بولندا لم يكن بدوره في مزاج الحلول السياسية وإنما كانت لهجته تصعيدية بامتياز وبتوعّد صريح ضد بوتين وروسيا.
 
كلاهما قالا لنا بوضوح إن العلاقة الأميركية - الروسية قد انهارت كلياً ولا  مجال لإعادة الأمور الى الوراء. كلاهما أكدا في خطابهما أن المواجهة بين الولايات المتحدة وروسيا تتعدى أوكرانيا، وأن العالم بات أخطر، وأن لا مجال لبناء جسر يردم الفجوة بينهما. فلقد دخلنا مرحلة المواجهة المباشرة بين أميركا وروسيا ليس كحرب باردة وإنما كمشروع ولادة حرب عالمية ثالثة.
 
مستوى التوتر يرتفع من دون سقف، وإمكان تطوّر المواجهة هي أيضاً بلا سقف أو حواجز. الخوف هو من استفزازات صغيرة تؤدي الى عواقب كبيرة. الخوف الآخر هو من انحسار الذعر والهلع من استخدام الأسلحة النووية، وكأن ذلك تم أخذه في الحساب. روسيا من جهتها أوضحت بأكثر من إيحاء وتلميح وتحذير أنها جاهزة لاستخدام الخيار النووي إذا فرضت الحاجة. وبالرغم من ذلك، يبدو أن الغرب إما لديه مشاريع مضادة أو أنه ما زال يراهن على أن بوتين لن يجرؤ. ولذلك انه لا يهلع أو أنه يخفي هلعه كي لا يُرعب الرأي العام.
 
القادة الأوروبيون يصطفّون وراء القيادة الأميركية ويوافقون على ما تسوّقه إدارة بايدن بأن هذه الحرب هي من أجل القيم والديموقراطية وهي تتطلب وحدة لا مثيل لها بين أعضاء حلف شمال الأطلسي. هذه القيادات الغربية لا تبدو قلقة من مواقف دول كالهند والبرازيل وجنوب أفريقيا ولا حتى الصين. كامل انصبابها هو على الوحدة الأوروبية- الأميركية، وعلى إلحاق الهزيمة بروسيا، وعلى صعود أميركا بصفتها القوة الأكبر في العالم، أي عالم بقطب واحد وليس بقطبين أو ثلاثة.
 
هنا دخلت الصين على الخط لأن عالم القطب الواحد مرفوض لديها ولا يمكن لها أن تجلس جانباً وتراقب. قررت الصين أن مصلحتها تقتضي خوض ساحة الحرب الأوكرانية بخطةٍ لإنهاء الحرب في الوقت الذي ارتفعت فيه أصوات أميركية وأوروبية تتهمها بالتورّط في إمداد روسيا بأسلحة تساعدها في الحرب الأوكرانية.
 
القيادات الأميركية والأوروبية وحتى القيادة الأوكرانية قررت ألاّ تضرب مبادرة الصين بعرض الحائط قبل التعرف الى فحواها- وكذلك روسيا. كل هذه القيادات تعرف جيداً ان الصين للصين أولاً وأخيراً وأنها تضع مصلحتها العليا فوق كل اعتبار وهي تُبحر بين الأعداء والأصدقاء على السواء. الصين براغماتية وما تخشاه هو أن تؤثر تطورات الحرب الأوكرانية سلباً على المصالح الصينية. لذلك قررت أن تلعب لعبة السلام مع أوروبا وأن تتودّد اليها. قررت استباق أية إجراءات عقوبات أميركية ضدها. قررت أن تبلّغ روسيا أن الصين ليست مرتمية في أحضان اعتبارات وحسابات بوتين وتهوره وأنها تتوقع منه تنازلات جديّة.
 
ما استنتجته الصين هو أنه إذا تحوّلت الحرب الأوكرانية الى عكس ما اشتهته القابلية الروسية، فإن الصين هي التي ستضطر للوقوف بمفردها في وجه "ناتو" بقيادته الأميركية. فالصين أكثر خوفاً على نفسها من خوفها على روسيا. وهي لا تريد أن تتبنى ما قد يؤدي الى نسف مشاريعها الاستراتيجية البعيدة المدى.
 
المبادرة الصينية لن تكون سهلة التسويق لدى الغرب ولا لدى روسيا. عند كتابة هذه السطور، لم تكن تفاصيل المبادرة مُعلنة وواضحة، لكن المبادئ التي تتمسّك بها الصين في العلاقات الدولية، حتى ولو كانت لغة استهلاكية فقط، لن تكون مقبولة لدى روسيا. والكلام يصبّ في لغة "سلامة الأراضي" Territorial integrity للدول، كما في لغة وقف إطلاق النار.
 
كلاهما مرفوض قطعاً ليس فقط لدى فلاديمير بوتين وإنما أيضاً لدى المؤسسة العسكرية كما لدى قطاع من المجتمع الروسي انطلاقاً من دستور كل من روسيا وأوكرانيا الذي يعتبر الأراضي المتنازع عليها أراضيه، وبالتالي لا مجال لخطة سلام تنطلق من سلامة أراضي أوكرانيا. أما وقف النار، فإنه مبدأ مرفوض قطعاً من جانب جنرالات روسيا.
 
ثم أن فكرة الصين بوقف النار مقابل توقف حلف "ناتو" عن ضخ الأسلحة الى أوكرانيا بدورها مستحيلة لدى الغرب ولن تلاقي أي ترحيب بها أو الاستعداد لها من قبل الولايات المتحدة والدول الأوروبية لا سيما عشيّة استعدادات ضخمة لعمليات هجومية الهدف منها أن تكون مصيرية لجهة استنزاف روسيا وإلحاق الهزيمة بها. إضافةً إلى أن الغرب لا يتعاطف مع مخاوف الصين من هزيمة روسيا بل انه منذ البداية أراد إضعاف الصين وليس تقويتها.
 
ماذا قد تريد الصين إذا فشلت مبادرتها في وقف الحرب أو بدء العملية السلمية؟ تريد التموضع في علاقاتها مع الولايات المتحدة قبل الحسم العسكري، لا سيما إذا كان في اتجاه إلحاق الهزيمة بروسيا. الصين تريد ضمانات إضافية تدخل في خانة الثنائية في مسيرة التنافس بين القطبين الأميركي والصيني، في حال تطوّرت الأوضاع الميدانية الى هزيمة مؤكدة لروسيا.
 
كل شيء تغيّر بسبب الحرب الأوكرانية. الجميع في حاجة لإدراك التحديات المصيرية بما فيها النووية وأن يعيد التفكير في الاستراتيجية والتكتيك لأن السبل القديمة لحل النزاعات باتت بالية ولا مجال لإحيائها. ولا توجد اليوم آليات جديدة فيما العالم قد يدخل حرباً عالمية ثالثة.
 
المعضلة تكمن بأن جميع اللاعبين في حال انكماش وتأهب بلا نافذة على الانفتاح بحثاً عن ترتيبات أمنية عالمية. الشهر المقبل، أذار (مارس) 2023، لربما سيكون تاريخاً مصيرياً عالمياً. فهذا زمن عسكرة الديبلوماسية، وكل الخيارات باتت مطروحة عسكرياً وليس سياسياً.
 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.