مع استمرار الحرب الروسية في أوكرانيا تزداد كوارث الاقتصاد الأوكراني الذي أخذ يقترب من الانهيار، حيث ارتفعت معدلات التضخم وانخفضت الصادرات، وكذلك قيمة العملة (40%). وتقول تقارير مستقلة إن الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، يحتاج إلى 5 مليارات دولار شهرياً، لتغطية نفقات الحكومة وتسديد الرواتب، وإلى 8 مليارات دولار أخرى لدفع فواتير الغاز شهرياً مع اقتراب موسم الشتاء القارس، حيث تقدر احتياجات أوكرانيا بنحو 200 مليون متر مكعب من الغاز تنتج نحو 50 مليون منها محلياً فقط، ما يعنى أن عجزاً مقداره 150 مليون متر مكعب يجب توفيره، وهذا العجز يحدث في ظل معضلتين، أولاً عدم قدرة الحكومة على توفير الأموال اللازمة لشراء تلك الكمية من الغاز، وهذا يعني أن عبء أوكرانيا اقتصادياً يتضاعف على الحلفاء، ويزيد من تأففهم من التداعيات المتواصلة للأزمة الأوكرانية. أما المعضلة الثانية فهي عدم قدرة الولايات المتحدة على توفير تلك الاحتياجات الأوكرانية من الغاز بسبب الفشل الأمريكي في تأمين مصادر بديلة للغاز الروسي.
أزمة الحاجة الماسة للغاز تتجاوز أوكرانيا إلى معظم، إن لم يكن كل، الدول الأوروبية مع اقتراب موسم الشتاء. فمعظم التقديرات تؤكد أن الشتاء الزاحف سيحمل فألاً سيئاً للأوروبيين، وسيصدم الأوربيون بأن الحرب الأوكرانية أخذت تنتقل إلى كل بيت أوروبي مع نقص المعروض من الغاز في السوق الدولية، ومع الارتفاع المتصاعد في الأسعار، الأمر الذي يفرض تساؤلات مهمة بخصوص المدى الزمني الذي يمكن أن تتحمله أوروبا في ظل الاضطرار إلى دفع تلك الأثمان للحرب الروسية، على نحو ما تساءلت صحيفة «الفايننشيال تايمز» البريطانية، تحت عنوان: «هل يمكن لأوروبا أن تظل موحدة بشأن الحرب في أوكرانيا؟».
هذا السؤال المهم فرض نفسه في ظل تخوف من أن ينقلب المزاج الشعبي فى أوروبا ضد العقوبات المفروضة على روسيا، واضطرار موسكو لاستخدام الغاز ل«تأديب أوروبا» على تلك العقوبات، على نحو ما كشفته الأزمة التي تفجرت عندما قامت شركة «غاز بروم» بتخفيض إمدادات الغاز لأوروبا من خلال خط الغاز الرئيسي الذي يحمل اسم «نورد ستريم-1»، بسبب أعطال فنية. وسواء كان هذا التخفيض لأسباب فنية، أو «قرصة أذن» روسية للأوروبيين بتذكيرهم أن «الأسوأ قادم» إذا ما ظلوا على تمسكهم باستمرار مقاطعة روسيا، فإن الرسالة الروسية وصلت مدوية إلى الأوروبيين.
وإذا كان المسؤولون الأوروبيون يرفضون بحزم، أي إشارة إلى «تآكل وحدة الموقف الأوروبي من الأزمة الأوكرانية، رغم اضطرار الاتحاد الأوروبي إلى الإعلان عن خفض استهلاك الغاز بنسبة 15%، إلا أن المراقبين يرون أن الأمر أخطر من ذلك بكثير، لدرجة أن التوقعات والأحاديث باتت تتجاوز الحدود الضيقة لما يسمى ب«وحدة الموقف الأوروبي إزاء الأزمة الأوكرانية»، بما يعنيه ذلك من احتمالات تفكك هذا التوحد، وتمرد دول أوروبية على سياسة مقاطعة روسيا ومعاقبتها، وأنها، أي التوقعات، أخذت تطال «الوحدة الأوروبية ذاتها»، أي مدى استمرار توحد الأوروبيين ضمن إطار «الاتحاد الأوروبي» على النحو الذي تحدثت عنه مجلة «فورين أفيرز» الأمريكية التي كتبت تحت عنوان «هل تستطيع روسيا تقسيم أوروبا؟»، أنه مع كل شهر إضافي من الحرب الأوكرانية يتزايد خطر الانقسام في البيت الأوروبي.
فوفق حسابات بوتين فإن «أوروبا ستنكسر» أمام قوة الإرادة الروسية، حيث تواجه القارة الأوروبية اختبارات صعبة لدفاعاتها واقتصاداتها وأنظمة الطاقة وديمقراطيتها. وشواهد ذلك كثيرة، حيث تتزايد يوماً بعد يوم التوترات من بلد أوروبي، لآخر حول كيفية التعامل مع الحرب الأوكرانية. فألمانيا، على سبيل المثال تباطأت بشأن الأسلحة الموعودة إلى أوكرانيا. وفي إيطاليا سقطت الحكومة الائتلافية لرئيس الوزراء ماريو دراغي، وهناك معارضة سياسية متزايدة من الأحزاب «الشعبوية» ضد الدعم العسكري لأوكرانيا، وإذا كان الأوروبيون اتفقوا خلال الأشهر الماضية على فرض خمس حزم من العقوبات ضد روسيا، فإنهم فشلوا في فرض حزمة سادسة تستهدف النفط الروسي.
فإذا كانت التوقعات تؤكد أن الشتاء المقبل سيكون «شتاء قارساً ومكلفاً» في ظل توظيف روسيا للغاز كسلاح للضغط على الأوروبيين، فإن الضغوط الاقتصادية أخذت تدعم الأحزاب القومية الشعبوية واليمينية ومنحتها فرصة مثالية للصعود مرة أخرى.
ضغوط متنوعة تفاقم من جدية السؤال عن مدى قدرة أوروبا على الصمود أمام الضغوط الروسية.