في الأعوام الخمسة الأخيرة شهد العالم كثيرا من المتغيرات والأحداث الجوهرية، وواجه كثيرا من التحديات التي أثرت فيه وفي مفاصله الحيوية في شتى النواحي الاقتصادية والاجتماعية والأمنية وغيرها. جائحة كورونا التي شلت الاقتصاد العالمي وطالت جل الأنشطة الاقتصادية، ولم تكن أسواق الطاقة عموما، وأسواق النفط خصوصا، بمعزل من آثار هذه الجائحة الحادة، حيث انخفض الطلب على النفط ومشتقاته بصورة قياسية بسبب الحظر الكلي أو الجزئي الذي فرضه كثير من الدول. أدى إغلاق كثير من الأنشطة الاقتصادية، وتقييد السفر، إلى انخفاض الطلب على النفط ومشتقاته ومنها وقود الطائرات، وغيرهما من العوامل التي هوت بأسعار النفط إلى مستويات تاريخية، وسجلت أسعارا لم يسبق لها مثيل.
عندما ظن العالم أنه على بعد خطوات من الخروج من عنق الزجاجة، وأن الاقتصاد العالمي بدأ يستعيد عافيته بسبب انحسار جائحة كورونا وعودة الأنشطة الاقتصادية إلى طبيعتها تقريبا، أصبح العالم على الأزمة الروسية الأوكرانية التي هددت بلا شك أمن الطاقة العالمي، إضافة إلى الأمن الغذائي، فكما أن الأولى وأعني روسيا أحد أهم منتجي النفط والغاز في العالم، فإن الأخيرة لها تأثير كبير في إمدادات الغذاء العالمي، وعلى رأسها إمدادات القمح.
الأمر المقلق حقا فيما يخص أمن الطاقة العالمي، أنه وإضافة إلى أهمية شرايين الطاقة الروسية على العالم عموما وعلى أوروبا خصوصا، التي ستعاني - في رأيي - أزمة طاقة حقيقية على المدى القصير ما لم تنفرج الأمور بين روسيا أو الغرب، ما يحافظ على سلامة إمدادات الطاقة الروسية، إضافة إلى هذه الأزمة الحقيقية، فقد سبقها سعي حثيث من بعض الدول والجهات إلى وقف الاستثمارات في عمليات الاستكشاف والتنقيب الجديدة. إذا ما استمرت أزمة روسيا وأوكرانيا ولم تحدث انفراجة، وإذا ما استمر بعض صناع القرار في مراجعة توجهاتهم الراديكالية ضد النفط والاستثمار فيه، فإن العالم فعلا يقف على شفير الهاوية فيما يخص أمن الطاقة. ملامح أزمة الطاقة بدأت تتضح جلية، وما يحدث في بعض دول أوروبا التي تعمل جاهدة على تخفيف حدة العقوبات الاقتصادية على روسيا التي تشمل إمدادات الطاقة، حيث إن هذه الدول تعي يقينا أنها لا تستطيع بأي حال من الأحوال الاستغناء عن منتجات الطاقة الروسية على المدى القصير في أقل تقدير، فكما ذكرت سابقا أن الأصوات الأكثر حدة على منبر الاتحاد الأوروبي ضد روسيا، هي في الحقيقة أصوات لدول أوروبية أقل اعتمادا على شرايين الطاقة الروسية.
في المقابل، قامت "أوبك" بدور مؤثر وفاعل بالتعاون مع حلفائها بقيادة السعودية، وضبطت إيقاع أسواق النفط، وقامت بعمل استثنائي لإعادة توازنها بتقنين الإنتاج ليتسق مع شح الطلب خلال جائحة كورونا التي انهارت فيها الأسعار، ما أدى ذلك إلى ارتفاع أسعار النفط إلى مستويات مناسبة للمنتجين والمستهلكين. ما زالت "أوبك" تعمل بكل قوة لاستقرار أسواق الطاقة رغم حدة الأزمة الحالية بسبب العوامل المجتمعة التي تم ذكرتها سابقا، لكن مسؤولية أمن الطاقة العالمي ليست حكرا على "أوبك"، بل مسؤولية الجميع، وأتمنى أن يصغي العالم لصوت الحكمة قبل أن يسقط في هاوية أزمة حقيقية للطاقة!