: آخر تحديث
تحدي جعلها قابلة للتداول العلمي والحضاري

اللغة العربية: الفروق اللُّغوية والفجوات الحضارية

31
30
31

تُظهِرُ تفاعلاتُ العالم العربي باليوم العالمي للغة العربية الذي اعتمدته الأمم المتحدة وتؤرخ له في 18 كانون الأول (ديسمبر) من كل عام بتسمية "اليوم العالمي للغة العربية"؛ تُظهِرُ تلك التفاعلات التأثير العميق للعربية، الممزوج بزهو انتماء تاريخي وديني في الشخصية العربية والمسلمة على السواء. ويؤكد مثل هذا الشعور الأثر البليغ الذي كوَّنَتْه العربيةُ في الذاكرة الثقافية لشعوب تتحدثها وتتصور من خلالها رؤيتها للعالم. إنَّ الرقي الإبداعي الذي عبَّرَتْ عنه نصوصها الشعرية وبلاغتها البيانية الساحرة لا تكاد لغة أخرى تضاهيها فيه، أو وصلت إلى ما وصلت إليه من تعظيم. على أن هذا الاحتفاء المُثير، لا بد أن يقدح التساؤل حول مدى استجابة هذه اللغة لما بات يُعرف بتحديات العصر ومعارفه، وموقعها بين لغات العالم وما تُسهم به في تطور الفكر الإنساني في سياقاته المعرفية المتعددة. وهي تساؤلات وإن بدت مشروعة، إلا أنها لم تكن جديدة منذ أن وجد المتحدثون بها ازدياد مسافة التباعد بين لغة رسمية تقليدية راسخة ومُهيِمنة تنهض على تقاليد ثابتة، ولغة أخرى تختلف أساليبها المتداولة في التعبير عن حاجات الحياة اليومية.

واللغة العربية في صورتها المُقتضبة والمكرّسة، تُمثّل زخمَ الماضي وإرثه، والدين وقدسيَّته، وتمتد في منحى أنثروبولوجي ليشمل الثقافة في بُعديها المادي والرمزي الإنساني في محتوى التعبير اللغوي، بل وأصبحت المنتج العربي الوحيد الذي كلما تقدم به الزمن ازدادت قيمته بين المتعاملين به.

حراس المعتمد الأدبي
وفرضت هذه المُحدِّدات برهبتها التراثية فزعاً مُقيماً أمام محاولات التفكير من داخلها أو المساس ببنتيها المتينة. وبالرغم من أن تفاعلاتها الاجتماعية (علم اجتماع اللغة) مثلها مثل الفكر والعلوم الأخرى التي شاركت فيها شتى المنظومات الاجتماعية الحضارية والتاريخية، إلا أنها بقيت تأبى على الاعتراف بما يمس اللغات بوصفها منتجاً بشرياً بحاجة إلى التجديد والاكتساب في دائرة التأثير المتبادل بين اللغات. فالعربية بحسب رعاية القائمين عليها – حراس المعتمد الأدبي – بتعبير الباحث العراقي سعيد الغانمي، لم تتأثر بأي لسان آخر غير العربية، بفرضية أنها لغة موحى بها، "توقيفية" لا تحتمل التدخل البشري بالاصطلاح الديني واللغوي كما عند بعض علمائها! وهذا العناد اللغوي بظلاله الميتافيزيقية بما يضاد منطق التطور اللغوي ربما ما حمل المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري أن يعد البدوي مرجعاً تأسيسياً في قياس صحة اللغة وصانعاً للعالم (العقل العربي) في بيئته اللغوية التي تمثل ينبوع اللغة الأولى قبل أن تخالطه عجمة الداخلين في الدين الإسلامي من أمصار تلهج بلسان ذي عوج!

واللغة العربية تمثل ذروة النص نظماً ونثراً وكلاماً في التماثل ما بين النص والمعتقد والإبداع والتفكير، وسلطة معرفة مطلقة في دائرة المنظومة الثقافية العربية. لم يكن سؤال اللغة وقدسيتها وإعجازها بعيداً عن مثار التساؤل الفقهي والكلامي نفسه، حيث كانت ولم تزل بنيتها البلاغية البيانية وقواعدها النحوية والصرفية في صلابة شرائع الدين الذي ارتبط بها وثبت من مرجعيتها اليقينية. وبهذا التعزيز الديني أصبح في حكم المستحيل التفكير فيها بغير صورتها التي استقرت عليها؛ والشواهد ماثلة لكل من حاول الاقتراب من دائرة الشك أو التفكير خلافاً لما هو موروث عن تقاليدها. هذا الموقف تصدى لكثيرٍ من الأدباء والمفكرين قديماً وحديثاً كطه حسين في الشعر الجاهلي أو لويس عوض في "مقدمة في فقه اللغة العربية"، وزمرة من الباحثين والمستشرقين ممن حققوا في طبقات اللغة التراثية.

سلطة النص
وتكاد العربية تمثل أبرز مرحلة للنص اللغوي التقني المكتوب غير القابل للتفكيك أو الإخضاع لأي منهج لغوي أو مقاربة فيلولوجية تدرس مكوناته التاريخية على ضوء منهج علم اللغة المقارنة، وغيرها من مناهج تفرعت عن الدراسات اللسانية الغربية في سياق مفهوم النص في الخطاب اللغوي الحداثي (سلطة النص). وهو إشكال آخر مثل حالة صدام قائم بين تيارات ومؤسسات سياسية، وبالضرورة دينية، في مسار التفكير العربي نحو الحداثة منذ بدايات القرن العشرين. ودخلت اللغة الصراع بوصفها المستودع التاريخي والديني أمام صراع حضاري ثقافي يمتد خارج حدود قوى التأثير، مما زاد من تشدد التيار اللغوي المحافظ. وبقيت التحديات التي تجابه العربية في كل العصور ذات مصدر خارجي كالتصدي للغزو قديماً أو الغزو الثقافي حديثاً. وهذا الاتجاه راكم بدوره تراثاً موازياً محوره الحفاظ على العربية بإبقائها داخل نسقها اللغوي التراثي، والديني واللغوي. ولكن كان من الصعب إنجاز المهمة في ضوء التغييرات التي تؤثر على المتحدثين بها على جميع مستويات الحياة؛ وإن أفلحت في الحفاظ على هوية العربية التاريخية كلغة تحمل كل علامات الهُويّة ببعدها الزمني التاريخي والإنساني في وجوده المتخيل أو الواقعي. وهذا لا جدال فيه؛ إذ إن اللغة أحد مكونات الدولة القومية وتدخل في تصميم تعريفها الدستوري.


لوحة (بلا عنوان) للفنان اللبناني سامي مكارم مستخدماً فيها الخط العربي

ولم يقتصر التحدي الذي يحرص عليه اللغويون، على أن تكون العربية لغة مستقلة بذاتها وأن تبعد بقدر الإمكان عن دخيل الألفاظ الأجنبية في التداول اللغوي العام، وهي مهمة لم تفلح فيها منصات العربية (مجامع اللغة) إلا بتطويع متعسف، وظل ما تنتجه حبيساً لما تُصدِره من نشرات أو تعتمده من مصطلحات علمية لمنتجات الحضارة، خاصة وأن الإسهام العربي فيها ليس مكان نقاش! وأدت هذه الثنائية بين الانبهار الحضاري والمحاولات المستميتة التقليدية للمحافظة على قديم اللغة - إن جاز التعبير - إلى فصام لغوي امتد إلى نمط التفكير العربي باعثاً متلازمة إشكاليات الثقافة العربية. فالسياسات اللغوية التعليمية Politico-linguistics لم تنجح في خطط سياسات التعريب في دراسات العلوم التطبيقية باللغة العربية، وظلت امتيازاً مُحتكراً للغات الأجنبية والإنكليزية على وجه التحديد كحقيقة من حقائق العصر؛ وتركت العربية ضمن شعارات الجماهير الغفيرة.

القاموس التاريخي
إن المعجم يشكُّل أهم ركائز العربية على ريادته التاريخية وكثافة مادته اللغوية وتعددها، وقد بقي ضمن الركائز التراثية، واكتسب ما اكتسبته العربية من قداسة بالمعنى الديني نفسه. وعلى ثرائه القاموسي وعمق تصنيفه في نسخته التراثية، احتاج (مؤخراً) إلى تحديث يوافق القواميس اللغوية الأخرى بما يُعرف بالقاموس التاريخي، المُهِمَّة التي تضطلع بها مؤسسات محدودة مستفيدة من قواعد البيانات التي توفرها تقنية المعلومات. وهذا بدوره يُعمم من فوائد الوصول إلى معلومة لغوية يصعب أن توافرها المعاجم الورقية وطريقة تصنيفها. ومن جانب آخر يدخل التداول البحثي للغة في نطاق متسعٍ من يغني كثيراً عما ألفته المناهج التقليدية البحثية.

وتبقى أهمية العربية، على وظيفتها اللغوية، في تمثلها كآلية ووسيط ربط بين جغرافيات لغوية Geolinguistics ممتدة وعمق تأريخي له رمزيته في تشكيل الشخصية العربية. ولأن تطور اللغة يقترن بتطور المجتمعات التي تمثل حواضنها مستجيبةً إلى مستجدات ما تنتجه المفاهيم والعلوم، يلزم انفتاحها بما يعنيه الانفتاح بمعناه الحضاري؛ ويشمل ذلك الانفتاح عاملاً آخرَ يرفد اللغة، وهو الترجمة والدور الذي تؤديه في إخصاب اللغة ومستوى انتشارها، ومدى استيعابها لمستجدات العصر.

اكتشاف الفجوات الحضارية
إنَّ ترقية اللغة العربيَّة، وأي لغة، لا يعني المحافظة على ثباتها في حدود الموروث منها على أهميته، ولكن مثلما تتجدَّد وتتطور المعرفة، والتي تتقوم بها اللغة، يقضي ذلك تطوير العربية بجعلها قابلة للتداول العلمي والحضاري بين مستخدميها. وهي قضايا مثارة في المشهد اللغوي العربي منذ عقود، وتعود إلى مرحلة اكتشاف الفجوات الحضارية الهائلة بين الثبات اللغوي المحافظ في المؤسسة اللغوية الرسميِّة، وما أنتجته الحداثة من منجزات لا مقابل لها في العربية، رغم محاولات الاشتقاق والتعريب التي أنتجت بدورها مصطلحات لا يكاد يقترب منها أحد. ومع الحاجة المُلحَّة لإعادة التفكير في تجويد الأداء اللغوي على المستوى العلمي والحضاري المعاصر، إلا أن الثابت المحافظ لم يزل يفرض هيمنته على التفكير العربي منافحاً عن طاقة العربية الهائلة في التوليد وثراء المفردات بما توفره من دلالات الألفاظ من فروق لغوية تمكنها من استيعاب كل جديد.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في ثقافات