: آخر تحديث

أنا وجدَّي.. قصص قصيرة جداً

60
53
45
مواضيع ذات صلة

-1-

كان العام الأخير من حياة جدي، أكثر الأعوام وداً وتعلقاً من جانبي بالمرحوم جدّي...!

ما أن تدق الرابعة فجراً حتى يتناهى لي صوته المرتعش وهو يقرأ القرآن بصوت متهدج.

دقائق ثم يأتيني صوته الحبيب هاتفاً: الصلاة يا عباد الله..نعم..كُنت أنا المقصود بعباد الله، ووحدي المُلزم بالصلاة لأني مُلازم له في ذات الغرفة الصغيرة التي يقطنها لوحده بعد رحيل جدتي.

وكُنتُ وحدي المُرافق له الى المسجد الكبير في مركز المدينة، وكان يُلزمُني بأن أصلي الى جواره في ذلك الحشد الكبير من المصلين يوم الجمعة.

وكُنت مُكرهاً على أن أصوم، أو أدعَّي الصيام على الأقل، وكم من رمضانٍ يكتشفُ الشيخ إفطاري فيوبخني، ثم يطمانني بأنّه سيدفع تعويضاً عن إفطاري، بما يعادل كذا اوقية من القمح أو ما يقابلها من المال، وأشكره بامتنان وأبدي الندم الزائف، الذي كان رحمه الله يصدقه.

لكنني، خفيةً، وببطء شديد، كُنت أقتدي وأتعلم وأسلك ذات مسالكه النبيلة دون أن أعي...!

كُنت أتسلل الى المطبخ، التقط رغيف خبز وأذهب صوب العجوز العمياء المُهملة القاطنة في كوخ مُنعزل عن بيت بنيها القساة اللذين طردوها بعد أن فقدت بصرها.

وكُنت أجالسها وأتحدث معها وأدعو لها وأرجوها أن تتمسك بحبال الصبر وألا تكف عن الصلاة والدعاء...!

وأندهش من نفسي.. من أين يأتي هذا الكلام..وكأن صوت جدي هو من ينطق في هذا الكوخ القذر الذي شرعت خفية بتنظيفه دون علم أهلي والجيران.

رحمه الله.. كم كان نبيلاً...!

-2-

حين مات جدي، حمله أبي وأعمامي الى السيارة التي ستقلّّهم الى مقبرة سيدنا الزبير.

الححت وبكيت وتشبثت بجلباب أبي الأبيض راجياً أن ارافق جدي...!

ورفض، مالك وهذا يا ولد..جدك راحل الى رحمة الله، المقابر ليست للأطفال.. أذهب والعب مع صحابك...!

-لا.. ينبغي أن أرافقكم..أرجوك يا أبي...!

-دعه يذهب معنا، لا باس، أصعد يا بني...!

وصعدت والدموع تتدفق من عينيَّ فأمسحها خفية بظاهر كفي المتسخة...!

حملوا بقايا ملابس جدي وانشغلوا بالحديث عنه وعن الأرض التي ورثوها والمال وكيف يُقسم وو، وارتقوا السيارة على عجل ونسوني جالساً عند قبر جدي...!

بكيت ساعات، شعرت بالجوع والعطش والخوف، هتفت للمرة الأخيرة.. "جدّي أدعوا لي بالسلامة والأمان كما كُنت تفعل دائماً" ..!

فجأة احسست كفاً تهبط برقة على كتفي...!

-هيا يا بني، مأجورٌ إن شاء الله، رحم الله جدّك.. سيبقى لا شك حياً في قلوبنا وضمائرنا...!

وأمسك يدي وقادني الى سيارته.

 

-3-

 

حين كُنا عائدين أنا وجدي من المسجد عقب صلاة الجمعة.. تعثر رحمه الله بصرّة، التقطها وفي الحال هتف في الناس وهو يرفع الصرّة، من منكم فقد هذه...!

جفل الناس وتقدم أكثر من واحد ليلتقطها وأوشكوا أن يشتبكوا..لكنه كان يُطبق عليها بقوة...!

-لا تنازعوا يا رجال، هذا مال حلال لا شك والمال الحلال لا يضيع فمن يعرف كم بها تكون له.

احتاروا في الأمر إلا واحدٌ عجوز، هتف هذا مالي يا ناس، أنا إسكافي معروف في هذه المنطقة وأنتم قوم عابرون، لو لم يكن مالي ما أخذته وأنا أعلم كم دخلني اليوم من عملي وكم موجود في هذه الصرّة.

ناولها جدي له بلا اعتراض وأنصرف المُدعّين مولولين.

في شبابه الباكر، تذكرت جدي وموقفه مع المال المفقود حين اعترضني دينارُ يتلألأ تحت أنوار الشارع، كان على الرصيف بضعة صباغي أحذية من الصبية، رفعت الدينار وهتفت لمن هذا المال، فكان الدينار من نصيب أسرع صبي من الصبية صباغي الأحذية...!

رحمك الله يا جدي، كُنت أكثر مني نباهة وحرص إذ أعطيتَ المال لصاحبه الحقيقي...!

لا باس هؤلاء أطفال مساكين، ربما يقتسموه بينهم ويعودوا الى بيوتهم باكرا...!

 

تمت

أوسلو في الثامن من نوفمبر 2021


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في ثقافات