عمل لماري بيرد، المؤرخة الفائزة بجائزة " أميرة أستورياس للعلوم الإجتماعية" 2016، وفيلم وثائقي للتلفزيون العام الإيطالي، تناولا النزعة الجنسية في روما القديمة، من قبل ألفي سنة.
كتب الشاعر الروماني فيرجيليو "الحب ينتصر رغم كل شئ". لكن، كيف كان الحب، والجنس، والعواطف عند قدامى الرومان؟
قبل بضعة ايام، عقد مؤتمراً في روما حول حمامات تراجان، التي إفتتحت في عام 109 ميلادية، خلال حكم الإمبراطور تراجان، الإسباني الأصل، وتضمنت فعالياته عرض آخر الإكتشافات الأثرية والحفرية في هضبة "أوبيو"، القريبة جداً من مدرج كولوسيوم في روما. ومن قبيل الصدفة، أن راي13 (راديو وتلفزيون إيطاليا)، كان يقوم ببث برنامجاً لمدة ساعتين، بعنوان "روما: الحب، والعاطفة في روما القديمة"، المخصص لهذا العالم غير المعروف عن التقاليد الجنسية وأسرارها عند في روما القديمة. وفي هذه الأيام، هناك أيضاً كتاب مكرّس لهذه الفترة، ويعتبر من بين أكثر الكتب مبيعاً، بعنوان: "إس. بي. كيو.آر: تأريخ روما القديمة"، للمؤرخة الإنكليزية، المتخصصة في قدامى الكلاسيكيين، والفائزة مؤخراً بجائزة "أميرة أستورياس للعلوم الإجتماعية" ماري بيرد.
ووفقاً لما تقوله بيرد، أنه لمن المثير للإهتمام "أن شعباً صغيراً من وسط إيطاليا إستطاع أن يتحول إلى قوة هيمنت على أراضٍ واسعة، إمتدت عبر ثلاث قارات". أن هذا الإهتمام والفضول يركّز، بصورة خاصة، على عالم الحب والجنس من قبل ألفي سنة. وأن رحلة (راديو وتلفزيون إيطاليا) إلى حياة ذلك الوقت، التي قام بها عالم الأحياء القديمة المعروف ألبرتو أنجيلا، لم تكن رحلة سهلة وبسيطة، يهدف من ورائها تسليط الضوء، بلغة أنيقة وغير مبتذلة، ليس على الجنس فقط، بل على ثقافة ومكونات مجتمع كان قد بسط هيمنته على العالم، من قبل عشرين قرناً.
قبلة الكشف عن الخيانة
يبدأ ألبرتو أنجيلا بطرح السؤال التالي: كيف كان الناس يتبادلون القبل قبل ألفي سنة؟
لم يكن العشاق يتبادلون القبلات في شوارع روما القديمة، إلاّ أن الرومان كانت لديهم تقاليد غريبة. إذ وفقاً للقانون، كان للزوج "الحق في التقبيل". إيوس إيسكولي، إمرأة كانت ملزمة قاوناً بتقبيل الزوج في الفم كل يوم. فقد كانت تلك عادة تهدف إلى مراقبة المرأة إن كانت في حالة سُكُر. بهذه الطريقة كان يتم تطبيق القانون القديم، إذ كان يحظر على المرأة شرب الخمر، على أساس أنه في حالة إذا شربت إمرأة ما النبيذ، ربما تفقد السيطرة على تصرفاتها، وترتكب الزنا بسهولة أكثر، وذلك بسبب من تأثير الكحول الذي يؤدي إلى عدم التوازن في سلوك الفرد.
إزدواجية الميول الجنسية
من الواضح، أن الذكورية كانت سائدة في روما القديمة، وقد تجلّت بوضوح في العادات. وكان الرجل الروماني إزدواجي الميول الجنسية، وأن التربية الأخلاقية كانت تعمل من أجل تثقيف الأبناء، في ذلك الوقت. ومن أجل السير في هذا الإتجاه: كان على الرجل أن يكون مهيمناً ،ويفرض سيطرته وتفوقه في أي مجالٍ كان، سواء ضمن المجتمع، أو في السياسة، أو في الحرب، وبطبيعة الحال، وكذلك ضمن الأسرة.
عُرف عن الرجل الروماني أنه كان سيد المنزل المطلق، أي بمعنى آخر، صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في المنزل. وكان الرجل يتلقى تربية في إزدواجية الميول الجنسية، لأن هيمنته كانت تتجاوز المرأة، فقد كان عليه أن يفرض سيطرته على الجميع، لإظهار تفوقه، كما توضّح أستاذة القانون الروماني والمؤرخة إيفا كانتاريلا. لذلك، كان الرومان يمارسون اللواط مع أعدائهم المنهزمين، وحتى مع العبيد الذين كانوا يخدمونهم في منازلهم. وكان عليهم أن يكونوا نشيطين دائماً، وليس سلبيين. وتؤكد المؤرخة ماري بيرد "في روما، مجرد التلميح بأن رجلاً ما مارس اللواط، كان يسبب في تدمير مسيرته السياسية". وبإختصار، أن تعليم إزدواجية الميول الجنسية لم تكن تعني اللذة، بل السلطة، وذلك لأسباب ثقافية وسياسية. تلك كانت الخطوط العامة لصورة الرجل الروماني، غير انه من الممكن القول أن هناك أيضاً رومان لم تكن لديهم رغبة في إقامة علاقات شاذة جنسياً. وكان ينبغي على الشباب في المجتمع الروماني، الذكوري جداً، عدم الإحتفاظ بعذريتهم، عند بلوغهم سن الزواج. وقد بلغ الأمر حد النظر بريبة إلى الذين يفتقرون لتجارب جنسية سابقة لهم. ولكن في المقابل، بالنسبة للفتيات، لا سيما في الأسر الثرية، كان من غير الوارد تكوين علاقات جنسية قبل الزواج، لوجود سبب عملي يحول دون ذلك: إذ، إلى جانب القيمة الإجتماعية، كان الهدف من ذلك، تجنب المخاطر التي قد تترتب على الزواج في حالة الحمل، وخشية قيام الرجل بتربية طفل يعود لغيره.
زواج المصلحة
عند الحديث عن الزواج في روما القديمة، أول شئ يمكن أن يفاجئ أحد الطرفين، غياب الحب كلياً بين الزوجين، مع وجود بعض الإستثناءات. أن الزواج عند الرومان لم يكن يولد عن حب متبادل، بل عن رغبة من أجل الإنجاب والحفاظ على إستمرارية المجتمع والدولة، وإقامة روما العظيمة. وفي هذا الصدد، تضيف ماري بيرد "في روما، كما هو الحال مع بقية الحضارات الأخرى، أن الهدف الأساسي للزواج كان من أجل إنجاب الأطفال الشرعيين". وقد خدم الزواج أيضاً المجموعات الأسرية، بغية إنشاء شركات وزيادة القدرة الإقتصادية، والإجتماعية، والسياسية. لكن الأمور لم تكن تسير دائماً في هذا الإتجاه، لأن الحب كان عميقاً وأصيلاً في بعض حالات الزواج. وعلى سبيل المثال، حالة ليفيا دروسيلا كلاوديا، الزوجة الثالثة لأوغسطو، والتي ربما كانت تعد، حبه الحقيقي والوحيد.
وعندما كان يتعلق الأمر بزواج المصلحة، فقد كانت العلاقة بين الزوج والزوجة تفتقر إلى الحميمة والإثارة. وكانت هناك علاقات تصل حدّ البيروقراطية تقريباً، بحيث يمكن بكل سهولة إجراء الطلاق. وكان الرومان ينطلقون من فكرة أنه، لا بد من وقوع الخيانة والزنا. ويمكن للرجل أن يقوم بذلك في وضح النهار، بينما كانت المرأة تتجنب كشف أمرها. وفي مجتمع ذكوري تماماً، كانت القوانين تدين المرأة الزانية، لكن، في الواقع، كان الجميع يعلم أن ظاهرة الزنا هي حقيقة ثابتة. ورأى الرومان في الحب هدية من الآلهة، يجب التمتع بها إلى أقصى حدّ.
مشاعر الحب، خارج إطار الزواج
كان الزوج، من أجل إشباع غرائزه الجنسية، يستعين بالعبيد، والعشيقات، والخليلات، والبغايا. وأما الزوجة فقد كانت تحتفظ بدور إنجاب الأطفال فقط، الدور الذي تصفه، بوضوحٍ شديد، الإستاذة كارلا فاير، المتخصصة في قانون الأسرة لروما القديمة، حيث تقول "لم تعش الزوجة لذّة الجنس والحب، لأنها كانت تضطلع بدور الإنجاب لا غير".
ويعني ذلك، أن الزوج والزوجة كانا يفتقدان لمشاعر وجنون الحب. ويمكن الإطلاع على أصداء تلك المشاعر في بعض النقوش القديمة. وهناك في بومبي جملة كتبها عاشق في وصف النشوة التي يمكن أن يمنحها الحب: "العشاق، مثل النحل، يتذوقون حياة حلوة، كما العسل".
فن الإغواء
"النبيذ، والجنس، والحمامات، تدمّر أجسادنا، ولكنها تعتبر نكهة الحياة". هذه الكلمات موجودة على نقش مكرّس للإمبراطور الروماني تيبيريوس كلوديوس، منذ القرن الأول قبل الميلاد. وقد كانت الحمامات الساخنة مرادفة للثقافة الرومانية. وكانت مشاعر الحب الجياشة تتحرر أيضاً بين أبخرة هذه الحمامات، وبالنظر لفخامتها،فقد كانت الحمامات هذه تمثل الملتقى الحقيقي للترفيه الجسدي، وأفضل مكان للإغراء، والسعي من أجل إقامة علاقات عاطفية. وأن أغلب الناس كانوا يرتادونها، بإستثناء الفقراء. ومن المعروف، أن رواد هذه الحمامات كانوا في مستوى واحد، كانوا جميعهم عراة أو شبه ذلك.
كانت للحمامات فائدة من الناحية الصحية، ووغالباً ما كان الأطباء ينصحون الناس بإرتيادها، لكن في ذات الوقت، كما توضح ماري بيرد "كانت هناك شكوك قوية بأن العري، والترف، ولذة الحرارة، والراحة العذبة بسبب البخار، كانت كلها عوامل تؤدل إلى إفساد التقاليد، وبأنها كانت في نظر الكثيرين مزيجاً خطيراً".
وكان للحمامات أيضاً تأثيراً ملحوظاً من حيث إبراز مفاتن الجسم وممارسة جراحة التجميل. وقدماء المصريين كانوا فعلاً قد مارسوا ذلك في السابق، لمعرفتهم العميقة بالتشريح، ومن ثمّ التحنيط. وكذلك،عمل الرومان من أجل إزالة الدهون الزائدة في الجسم، وإجراء التعديلات على تضخم الغدة الدرقية، والشفة المشقوقة، وأيضاً إعادة تجميل الوجه المشوّه بسبب الحروق أو قتال المصارعين.
دليل الحب
رغم أنه لم يكن شائعاً، إلاّ أن ما يسمى ب"دليل من أجل ممارسة الحب"، كان متداولاً، في الواقع، بين الرومان، ضمن أجواء طبيعية جداً وحرية، بحيث كانوا يستخدمون وسائل مختلفة لتحقيق ذلك، بما فيها دمى مثيرة جنسياً، بهدف بلوغ النشوة، أوتعليق المرايا في غرف النوم للتمكن من تأمل لحظات ممارسة الحب.
ومن الأمور المدهشة في حياة الرومان، الشرط أو الحاجة للتعريف عن القدرات الجنسية للجميع، والذي ينعكس بصورة جليّة عبر النقوش في بومبي، وفي بعض العبارات المكتوبة في بيوت الدعارة في المدينة الرومانية التي دمرها بركان فيزوف عام 79 بعد الميلاد. وقد إعتبر الروماني أن الرجولة هي أعلى فضيلة. وقد أشارت إلى ذلك، المؤرخة إيفا كانتاريلا، ضمن بحثها "إعطني ألف قبلة. الرجال والنساء الحقيقيون في روما القديمة"، بحيث شرحت بصورة مفصلة، حيث تقول "أن الرومان كانوا مؤهلين للسيطرة والهيمنة، في السياسة، والحب، والجنس. وأن الوجه الآخر للحياة الجنسية الرومانية هو التفاخر والتباهي بالرجولة، حتى في أكثر الجوانب المحددة والملموسة: من خلال النقوش الموجودة على الجدران، أوالإلتحاق بالصالات الرياضية، أوالحانات".
Aphrodisiac
أو المنشطات الجنسية الطبيعية. هذا المصطلح مأخوذ من إسم آلهة الحب والشهوة والجمال والإنجاب في اليونان القديمة، ويطلق عليها عند الرومان إسم "فينوس". وتعمل هذه المادة على زيادة القدرات الجنسية، حلم العديد من الأجيال خلال الآف السنين، كما كانت تستخدم أيضاً كمنشطات من قبل الرومان، وكان الإعتقاد السائد أن بعض الأطعمة تحتوي على المنشطات التي يمكن أن تثير الشهوة الجنسية، ومن بين هذه الأطعمة: المحار، والبيض، ونبات الهليون (السبرجس). أن قائمة الأطعمة التي تحتوي على المنشطات الجنسية طويلة عند الرومان، وتشمل: الثوم، والنعناع، والعسل، ونبات القراص، والفلفل، والصنوبر، والجرجير، وسرطان البحر، والرخويات...
كانت النزعة الجنسية عند الرومان مختلفة عما هي عليه الآن. ورغم أن ألبرتو أنجيلا، الذي نشر المعلومات التي تناولها فيلم وثائقي، وتمّ بثه من خلال (راديو وتلفزيون إيطاليا)، في كتابه "الحب والجنس في روما القديمة"، يختتم رحلته الطويلة إلى عادات المدينة الخالدة، مشيراً إلى أنه لم تستطع حضارة أو ثقافة أخرى، أن تقترب من حضارتنا، فيما يتعلق بالحياة اليومية، والحب، والجنس، ولو بأشكالٍ مختلفة، كما الرومان. فقد كانوا ينتمون إلى عالم قديم ولكن بميزاتٍ أخرى: العبودية، وإستغلال الإطفال جنسياً، والحق في معاقبة المرأة التي كانت تخون الطرف الآخر، وإمكانية تعدد الزوجات، وإزدواجية الميول الجنسية للرجال.
وفي النهاية، يقول ألبرتو أنجيلا "رغم أنه لا يمكن إنكار التشابه بينهما في العديد من المجالات، إلاّ أنهما كانا عالمين مختلفين جداً من نواحٍ عدة. إذ لم يكن بمقدور رجل روماني التكيّف مع عالمنا، لأنه كان سيجده مليئاً بالمحظورات: ممنوع إقامة علاقات مع الفتيات الصغيرات، وأن على الرجل إحترام المرأة، وممنوع تعدد الزوجات، وإعتبار إستغلال الأطفال جنسياً جريمة، وعدم وجود العبيد،. وكان الرجل الروماني سيجد أمامه فئات إجتماعية غريبة (الشذوذ الجنسي، والمثلية الجنسية، والثنائية الجنس)، لأنه بالنسبة للروماني ليس هناك سوى الجنس، وكفى. كانوا يشبهوننا، لكن بأخلاقياتٍ مختلفة.