ذات يومٍ شتائيٍ مُعتم كئيب، كنت راقداً بنية النوم، تملكني انقباضٌ غريب مفاجئ..موجةَ حضورٍ غير بهي.. القوس في أقصى مديات توتره لدرجة أنّي سمعتُ دقات قلبي وكأنها طبول حرب تقرع بإيقاع سريع غاية السرعة.. تنامي حسّي لدرجة تصور القلب والشرايين على شاشة عينّيَ، كانت الصور بغاية الوضوح وبالألوان الفاقعة، وهزّتني بقوة موجة صداعٍ حاد..طبول تقرع في الرأس.
وأمتدَّ شعور أشبه بالموت الى الساقين فخفقا وارتجفا بقوة، وغمرني عرق بارد وتنامت دقات القلب وأرتفع صهيل وضجيج في جوف رأسي وعتمةٌ وسوادٌ خلف العينين وفي الدماغ...!
اجتهدت أن أحتال على الحال بالانغماس في تأملً عاجل، رددَّتُ إيحاءات ذاتية مُشجعة، شعرت بعبثيتها.
يستحيل التأمل وأنا مسلوب الإرادة بهلعً مُطبق...!
يجب أن أفعل شيء مختلف.. أتحرك ..أنهض..أصرخ أو أضحك ولو كذباً...!
ونهضت.. شعرت بدوار...تماسكت..
-أكثر ما يخيفني أن أموت وسط بناتي...!
أمّهم في العمل.. هم لا زالوا صغار.. كيف يحتملون مشهد.."أعوذ بالله"
تماسكت وجلست على حافة السرير...!
تناهت لسمعي المُشوش، أصوات ضحكات الصبايا متداخلةً مع حركة الأصابع على ازرار عتلة اللعب ورفيف الأذرع وهي تلوح في الهواء بينما الملاكمين المُفترضَين يتبادلان القفزات والركلات على شاشة التلفاز وأصابني الحماس بعدواه فنهضت...!
حين مررت قبالتهما، ارتشفت عيناي فيضٌ من بهجتهما العتيدة.. فابتهجتُ بدوري وتوجَّهت صوب صومعتي "المطبخ".
أغلقت الباب من الداخل وشرعت بالسير جيئة وذهاباً في تلك الأمتار الخمسة بين الباب والنافذة...!
***
"قبل أربعين..أو يزيد...!
على حواف الشط وبين النخل وزقزقة العصافير وتغريد البلابل وعبق رائحة أمَّ البنات السائرة بمحاذاتي، .. على كتفي تجلس ابنتي الأولى "نور"، كفيها يوشكان أن يغلقا عينَّي، ساقيها الصغيرتين تلتفان بقوة حول عنقي..ً!!
-بابا.. اركض.." واركض وتهرول خلفنا الأم وهي تلهث من أعياء التلاسيميا.. التفت نحوها.."لا تهرولي ..ارجوكِ..سيري على مهل".
وأجري وتقهقه صبيتي الحسناء الحبيبة...!
***
" قبل عشرين سابقةً للأربعين.. أو ربما.. يزيد...!
كُنت في ذات المكان أجلس على الشط حاملاً عصى الصيد، كان المرحوم فتياً وسيماً نزقاً، يُلاحق جامعات التمر والحطّابات، يخزهن بعصى الخيزران في الأماكن.. يقهقه.. يتضاحكن..يفتعل الحزم فلا يُحسنه "لكنه يُحسن الشبق"، بينما يتعالى غناءهن وغمزات عيونهن الكحيلة...!
"في موسم جني التمر تأتي صبايا من الضفة الأخرى من الشط، من الجار الجنب، يعملن ويعبثن كثيراً ويكسبن القليل من التمر والقمح والحطب مقابل العمل في حقول جدي الفسيحة الوارفة الظلال".
ورحل جدّي في الثمانين..ورحل ابي لاحقاً..ورحل أعمامٌ خمس..وعمّات...!"
ولا شكَّ أن صبايا الجار رحلن كذلك..لا شكْ...!"
***
لا أدري لم تلحُّ على شاشة ذهني صورٌ عديدة لكثيرين مرّوا على هذا الكويكب الجميل وغادروه...!
المرحوم بوذا وهو يجلس لليوم الخامس، بلا زاد ولا كلام...مُحدقاً في زهرة لوتس...!
وفي عينيه القٌ عجيبٌ وعلى شفتيه ابتسامة تأبى أن تأفل...!!
وأين هو الآن..وأينها ابتسامته العذبة النقية...!
وأين ذاك الذي ضرب بعصاه البحر لينقذ شعبه من الموت غرقاً وهوانا...!
وذاك الذي شغل العالم وأسقط العروش ومات نصف جيشه في سهوب روسيا، وعاد ليكمل المشوار، وسقط في واترلو ..حسيراً حزينا...!
***
ومن أنا؟
وما الذي يخيفني لو جاء أوان الرحيل؟
وكمّ من مرّة..تساقطت حولي قذائف المورتر وال "نمساوي"، ولم أُخدش...!
وكمّ من مرّة كان عزرائيل على بابي.. حين باعني جاري يهوذا بأربعين دينار، وإذ هرعوا.. ورغم أنَّهم لمحوا الستارة تتحرك في الداخل، تجاهلوا الأمر وانكفئوا بلا سبب وجيه...!
"وأظنهم وبخّوه ولم يسلّموه مكافأة التقرير"
ما الجامع المشترك في تلك اللحظات البهية.. الطرية أبداً...!
" سكينة الداخل وصفاء الروح ونعمةَ التسليم.."
***
حسناً..تعال أيها العجوز الطيب المثقل بأعباء المهمات الموجعة..تعال أنّى شئت وسنتبادل كأس جعة قبل أن ارافقك الى عالم لا أشك أنّهُ أجمل...!
همْ سيكبرون، وسيجدون السلوى من ألف باب ونافذة، وسينجحون في الحياة كما من سبقهم من أخوات، وسيرعونَ شجرة النزق الشفيف البريء وروح المرح وشجاعة التقبُّل ...!!
اوَ لَمْ أحسن عبر السنين سقي بذرتها في عقولهم الصغيرة؟؟
ابتسمتْ وخرجت لأتابع بشغف..بل وأشترك في صراع الديكة الافتراضي..!
***
أوسلو في الواحد والثلاثين من أكتوبر 2021


