لم يعُد ممكناً اختزال العولمة فقط في التكامل العالمي للتبادلات الاقتصادية. فالثقافة ظهرت كعامل متحرك جديد في قلب الديناميكيات العالمية بما يمكنُ أن يشكل نقطة تحول حاسمة في حياة البشرية. ففي مجال الإعلام المعولَم أصبحت تُطرح وجهات النظر العالمية والقيَم وأساليب الحياة معاً بشكل مكثف في منافسة عالمية ليتم الاختيار منها كلٌ حسب ذائقته الفردية في تجاوزٍ لكل ما هو خصوصيات ثقافية واجتماعية محلية. أمام هذه السوق الثقافية المفتوحة لم تعُد السياسات الوطنية قادرة على كبح جماح العولمة الثقافية، ومنع المجتمعات من التفاعل مع هذه المنتجات العولمية الجديدة؛ ما جعل حلول الدولة تقتصر على التعامل فقط مع آثار هذه العمليات العابرة للحدود. من هنا نشأ نظامٌ بيئي ثقافي جديد مفرط في العولمة، سيكون البقاء فيه للأقوى والأقدر على إنتاج الرموز والقيَم الجاذبة.
يشكل الفضاء الإعلامي المعولَم الجديد حقلاً استراتيجياً لا يقل أهمية، من الآن فصاعداً، عن الفضاء العسكري. فإذا كان الصراع العسكري تدور معاركه على مسارحَ جغرافية وميادينَ حقيقية بين مقاتلين ومِن خلال أسلحة تدميرية حقيقية وصولاً لفرض السُلطة على العدو، فإن الفضاء الإعلامي تحول أيضاً لمسرح تدور عليه معاركُ ثقافية بين الأفكار والقيَم والرموز. في هذا الصراع الجديد لا يمكن لأي طرفٍ دولي أن يظل غير مبالٍ أو غير نشِط تحت وطأة الشعور بهذه الحروب الثقافية، والكل سيُساهم فيها بطريقته الخاصة فيؤثر ويتأثر. فمِن خلال النواقل الإعلامية تسافر الثقافات، من دون اعتبار للحدود الجغرافية للدول، لتتشكل مساحات افتراضية جديدة توفر أنماطاً لحياة مُختلفة ورموز وأبطال وأحلام وقيَم استهلاكية تعمل في شكل نظامٍ رمزي وتنتشر بشكلٍ ديناميكي كقوة تظهرُ جاذبيتها في كل مكان، وغالباً ما تكون أكثر إغراء وتأثيراً من المحيط المباشر الجغرافي للأفراد.
ولذلك أصبحت الأسر في حيرة من أنها لم تعُد هي الأداة الأساسية للتنشئة الاجتماعية للطفل اليوم: فالشاشة برسومها الكرتونية وألعابها الإلكترونية تحمل قيَماً جديدة ورؤى للعالم غير التي نشأ عليها الوالدان، مما يترتب عليه اختلاف وجهات النظر وتبايُن المواقف بين الآباء والأبناء تجاه الآخر المختلف والثقافة المختلفة بما يسبب هزة في الحالة الثقافية والاجتماعية للأسرة الواحدة. الهجرات البشرية ساهمت كذلك في تحول أغلب الدول لتوليفة متنوعة من الجنسيات التي تحملُ ثقافات مختلفة وأدياناً متباينة ما شكل ربكة للهُوية والثقافة المحلية جعلت السياسيين في حيرة أمام خِيارات التعامل مع هذه التشكيلة الثقافية المستجدة.
ففي أوروبا على سبيل المثال يُظهر استطلاعٌ أجرته مؤسسة الابتكار السياسي من قِبل خبراء من ثماني دول أوروبية في مارس (آذار) 2007، أنه في حين أن الفرنسيين قلقون بشأن العواقب الاجتماعية للعولمة، فإن الإيطاليين والإسبان والبريطانيين تؤرقهُم قضايا الهجرة، ويشعر السويديون والإستونيون بالقلق من تأثير العولمة على البيئة، بينما يعتقد الألمان أنهم أجروا الإصلاحات الكفيلة بالحصول على مكاسبَ من التطور الحالي للعولمة. بالتالي، حسب الاستطلاع، ينظر الأوروبيون بوجهٍ عام إلى العولمة على أنها عملية إيجابية شاملة، باستثناء فرنسا التي تنظر إلى أن الإسلام مصدر تحد وقلق أمام الثقافة والهُوية الفرنسية. لهذا يدور حالياً سجالٌ كبيرٌ في فرنسا حول التعامل مع ظاهرة انتشار الإسلام والمسلمين في فرنسا، في مساعٍ للتوصل إلى سياسات إدماج اجتماعي وإلى «إسلام فرنسي» للحفاظ على ما يسمونه «قيم الجمهورية الفرنسية»!
في مواجهة تحديَات العولمة الثقافية على مستوى العالم يمكن ملاحظة ثلاثة مواقفَ سياسية للدول؛ أولاً، موقفٌ سلبيٌّ من جانب أولئك الذين يعتبرون أنهم غير قادرين على مواجهة العولمة الثقافية بفاعلية، ولا يملكون الوسائل للعب دورٍ مُهم في التصدي لها مما يجعلهم مستقبِلين لا مُرسلين، متأثرين لا مؤثرين. ثانياً، هناك نهجٌ أقرب للدفاعي ويتمحور حول تعزيز الدولة كحصنٍ منيع ضد أي مؤثرات سلبية ثقافية خارجية، من خلال فرض سياساتٍ ثقافية محلية ومنتجات ورموز معرفية وطنية وبناء هُوية وطنية جامعة تميزُ المجتمع المحلي وتبعدهُ عن أي اختراقات لهُويات عابرة، كما تفعله إيران على سبيل المثال. وهذه الدول المدافعة قد تنجح في بعض السياسات على المدى القريب والمتوسط، لكنها على المدى البعيد لا يمكنها الصمود ما لم تكُن منتجاتها الثقافية والمعرفية والهُوياتية الوطنية أكثر جذباً وواقعية من الثقافات «الغازية». وأخيراً يوجد نهجٌ استراتيجي هجومي تتزعمهُ الولايات المتحدة الأميركية منذ الدعوة إلى «أمركة العالم» التي أطلقها عام 1898. الرئيس ثيودور روزفلت لترويج قيَم أميركا وأفكارها ورؤاها للعالم كركيزة أساسية في القوة الاستراتيجية الأميركية، تضافُ إلى الركائز الأخرى العسكرية والاقتصادية والتقنية. ولذلك تعتقد النُخب السياسية والثقافية الأميركية أمثال فرانسيس فوكاياما وصمويل هنتنغتون أن الاختلافات الثقافية ستكون هي المحرك الرئيس للنزاعات بين البشر في السنين المقبلة، وأنه يستوجب على الولايات المتحدة فرض الثقافة الليبرالية الأميركية ولو بالقوة. وربما هذا ما يفسرُ بعض الأجندات الثقافية التي أرادت أميركا تمريرها بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2001، والتي لخص غايتها جورج بوش الابن في مقولته الشهيرة: «إن لم تكُن معي فأنت ضدي»!
يمكنُ تصنيف إيران بأنها تتبنى مزيجاً من النهج الدفاعي الذي يتبنى الحمائية المفرطة ضد الثقافات العابرة، والنهج الهجومي الذي يقوم على تصدير الثقافة الإيرانية الثورية برموزها العرقية والمذهبية والطائفية إلى العالم العربي والإسلامي. إما ميدانياً من خلال بناء المؤسسات الثقافية والإعلامية التابعة لإيران في هذه الدول كلبنان والعراق وسوريا واليمن، أو من خلال منافذها ومنصاتها الإعلامية التي تبثُ البروباغندا والدعايات المُظللَة. وفي مأسسة واضحة لخطاب الكراهية الذي تبثهُ إيران ضد من يخالفها التوجه السياسي والعقدي نجد أن مسؤولية الإشراف العام على جهاز الإعلام في إيران مرتبطة مباشرة بالمرشد الأعلى من خلال الدستور، كتعيين رئيس مؤسسة الإذاعة والتلفزيون وإقالته، وهذا يدل على محورية دور الإعلام في السياسة الإيرانية الداخلية والخارجية، وأنه أحد عناصر القوى الوطنية لتسويق المشروع الإيراني الاستعماري.
في الختام، يمكن القول: إن واقع العولمة يفرض نفسه حتى على أولئك الذين يتحدونها ويخافونها، ومِن الصعب السيطرة على آفاق وتجليات العولمة في وقتٍ أصبحت منصات الإعلام والتواصل منتشرة في كل زوايا العالم لتُشكل نظاماً بيئياً رمزياً جديداً. إن التعدُدية الثقافية للعالم يمكن أن تشكل خطراً إذا تم تحويلها إلى الخوف من الآخر وإلى الدخول في منطق المواجهة والإقصاء والوصاية بحُجة الأمن الثقافي، ويمكن أن تكون فرصة إذا هيأت دول العالم الظروف للتفاعل والتعايش مع تعدد الثقافات وقبول أي قيَم إيجابية جديدة يمكن أن تضيف شيئاً لحياة الشعوب وسعادتها ورفاهيتها. والسؤال الأخير المطروح هو؛ ماذا يجب على الكيانات الإعلامية الوطنية والخاصة القيام به كي تبقى العولمة الثقافية بيئة للتواصل وتبادل القيَم وتعزيز المشتركات الإنسانية، وتجنب أن يتم توظيفها كأداة للنزاعات الثقافية والعنصرية ولخطاب الكراهية؟
* باحث في الشؤون الدولية والاستراتيجية