انتشر الانترنت فاخترق حياتنا حتى عزلنا في وقت جاء ليسهل تواصلنا وبات يشكل تهديدًا جديًا وخطيرًا على مجتمعات بكاملها لما يخلقه من شخصيات افتراضية مضطربة الهوية تنتج خطابًا عنصريًا رافضًا للفكر الآتي من الآخر.
إيلاف: يؤكد خالد عزب أن انتشار الإنترنت وتدفق الأفكار والمعلومات عبر شبكة الإنترنت شكَّل تهديدًا غير مسبوق لكل المجتمعات، حتى المجتمع الأميركي، الذي قدم هذه الثقافة إلى العالم.
هويات مفقودة في زمن متذبذب |
لذا فعلماء الأنثروبولوجيا والاجتماع والفلسفة يرون أن هناك جدلًا بين الثقافة والمجتمع الحديث يتجسد في ما يلي: هل المجتمع هو الذي يجعل الإنترنت على ما هو عليه، أم إن الإنترنت هو الذي يجعل المجتمع على ما هو عليه؟. أو بعبارة أخرى: هل الحواسيب الشبكية مجرد أدوات، أم إنها شيء يفوق ذلك، شيء تقني؟.
تأثير واضح للعولمة
لو عقَّدنا الأمر أكثر يكون التساؤل: هل التقنيات مجرد وسائل لبلوغ غايات خارجة عنها وأبعد منها؟، أم إنها تحدد تلك الغايات ولا تقتصر على خدمتها؟. الأدهى من ذلك: هل تلك الغايات تخرج من رحم التقانات نفسها؟.
أضاف عزب في دراسته "البحث عن الإنسان: الدين، التقنية، الهوية"، الصادرة من وحدة الدراسات المستقبلية في مكتبة الأسكندرية، ضمن سلسلة "شرفات"، إن "ليس كل من خبِر ما للعولمة والثقافة الشبكية من طاقات نابذة ستتولد لديه هوية حيوية مقاومة أو هوية مشروع تجعله طرفًا في الحركات الاجتماعية الساعية إلى منابذة نظام المجتمع المدني الطاغي".
استطرد مكملًا: "لكن هذا لا يعني في المقابل أن هويات هؤلاء أو ممارسات بناء الهوية لديهم تظل غير قابلة للتأثر بديناميات العولمة والتقانات الجديدة، وبالفعل، حتى بالنسبة إلى أولئك الذين لا يستمدّون هويتهم من معاداة التيارات السائدة في المجتمع المعاصر، يمكن أن يُفهم الوضع الراهن على أنه وضع تحضر فيه أسئلة الهوية بالنسبة إلى الأفراد، على المستوى الشخصي، بطريقة مباشرة تمامًا.. يمتد كل هذا إلى التغيرات السريعة في التقنيات، فالابتكارات سرعان ما تكون متداولة بين الناس لتغير حياتهم، حتى الاقتصاديات التقليدية لم تعد كما كانت، ولن تستمر كما هي الآن، فنحن في عصر فيه اقتصاد جديد يعرف باقتصاد المعرفة، نمط لم نعرفه من ذي قبل".
تفشي عدم المساواة
انطلق عزب في دراسته من فكرة هرمية المجتمعات ودور تركيز السلطة في زيادة الإنتاج. وتطرق إلى إشكاليات الهوية ومستقبل الثقافة وإنتاج المعرفة في عصر الانترنت، كما تناول دور التقدم التكنولوجي في تغيير المجتمعات، وأهمية النظم الثقافية المعقدة.
وقال إن الدول تقوم على التسلسل الهرمي للمجتمع، عكس القبيلة أو المجتمع البدائي، الذي يوجد فيه مستوى واحد من السلطة أعلى من إنتاج المواد الغذائية لهذا المجتمع، ذلك المجتمع الذي يقيم فيه الرئيس جنبًا إلى جنبه مع رفاقه والحرفيين والخدم.
يوضح أن "في الدولة هناك مستويات متعددة للسلطة، وهي معقدة تؤدي إلى تركيز القوة "السيطرة"، التي تحتاج زيادة أكبر في الإنتاج، وتنوعًا في أدوات الإنتاج، وتبادلًا سلعيًا وقيمًا روحية، هذا كله يقود إلى تسلسل هرمي في المجتمع، وإلى ظهور عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية بين الصيادين والفلاحين والتجار ورجال الدين وممثلي السلطة والإدارة، وهو ما يشير إلى هرمية السلطة والمجتمع. وهناك بعض المجتمعات الصغيرة من الناس، ربما ينجحوا في تشكيل مجتمعات متساوية أو مجتمعات غير هرمية، لكن هذه الفئات المجتمعية لا يمكن أن تتجاوز أعدادها أكثر من بضع مئات من الأشخاص، ويتم ذلك عن طريق عدم تطوير بعض أشكال التسلسل الهرمي".
عن نجاح الطبقات الحاكمة في إحكام قبضتها، يؤكد عزب أن هناك طريقة واحدة لتنظيم المجتمعات في الدول، وهي تقسيمها إلى طبقات أو طوائف وفقًا لوظائفها، ويلعب الدين هنا دورًا مهمًّا، فضلًا عن كلٍّ من الرقص والرياضة والحرف والجماعات التطوعية. هذه الأنشطة لا تعتمد على الأقارب. لكنها كانت مفيدة في الحدّ من الثورات والخلافات بين الأقارب على السلطة أو الثروة أو النفوذ السياسي.
المتخصصون يولدون الرفاهية
هناك عامل محدد آخر، بحسب عزب، أدى إلى تقدم المجتمعات ونمو سطوة الدولة، وهو التخصص، الذي أدى إلى إيجاد تكنولوجيا جديدة طوال الوقت. فبفضل المتخصصين استطاعت الطبقة الحاكمة إقامة علاقات اجتماعية وثيقة لتبادل المعلومات وتوطيد التحالفات التي رفعت من كفاءة أداء تنظيمات الدولة، التي تعضد في النهاية من قوة السلطة، هذا ما انعكس على تراتبية احترام المتخصصين، وانعكس على مدخلاتهم أيضًا، فكلما زاد عدد التخصصات مع التقدم العلمي، زادت الرفاهية في المجتمعات.
لكن في السنوات الأخيرة، أخذت وسائل التواصل الاجتماعي - كمنتج علمي - تأكل من هرمية الدول، وتهدد حتى آليات ممارسة السلطة، حتى رأينا أن هذه الوسائل تسقط أنظمة سياسية، أو ربما تتسبب في إقالة مسؤول، فهل هناك آليات جديدة لممارسة نوع جديد من السلطة يعتمد على الرأي العام المتبلور عبر الوسائط الإعلامية الجديدة؟.
ناقش عزب الهوية والثقافة، حيث أكد أننا أصبحنا في عصرنا هذا في حاجة ماسّة إلى من يتيحون الخطابات التي تصيغ هوية الجماعة وقيمها وبثها في الزمان والمكان... حيث إن تذبذب هوية المجتمعات وتعزز ثقتها في ذواتها أدى إلى صعود خطابات العنصرية أو الانكفاء على الذات الوطنية، بل حتى الشعور بالقلق من الأقليات المهاجرة، وبث الصورة التي تعكس طبيعة المجتمع ووعيه بذاته بصورة مقنعة باتت مشكلة كبرى.
ويوضح أنه في عصر الإنترنت صار هناك قذف مستمر عبر هذه الشبكة التي يتلقف المتفاعلون معها آلاف المعلومات والرسائل والشائعات، بل والمضامين يوميًّا، فكيف يتم تشكيل الوعي الوطني والذات الثقافية في ظل هذا القذف اليومي؟، فإدراك المجتمع لذاته بات متذبذبًا؛ إذ يتقوقع أفراده داخل الشبكة الرقمية، سواء عبر الأجهزة اللوحية أو على شاشات الهاتف المحمول.
فجوة رقمية
يقودنا الحديث إلى الجدل العميق على الساحة الدولية حول مستقبل الثقافة، ففي كل دولة يبدأ الحوار من دور المثقفين، إلى تحديد أهمية هؤلاء المثقفين، إلى دور الثقافة في بناء خصوصية المجتمع والدولة، ومن هنا فإن المثقف له دور كبير في ذلك، وهو من يعمل في أي مجال من مجالات إنتاج المعرفة أو نشرها. فقد كان المثقف عند العرب هو من يختزن في ذاكرته كمية كبيرة من المعلومات ليرتبها ويستعرضها أمام جمهوره أو في مقالاته أو كتبه، لكن كان هذا في الماضي. أما الآن فعليه أن يقدم رؤاه في صورة مركزة مقنعة تحمل تحليلًا ونقاشًا.
وأشار عزب إلى أنه في عصر بات فيه العالم مفتوحًا على شبكة الإنترنت لفرض الذات، ظهر مصطلح "الفجوة الرقمية"، كما فرضت بعض الدول رقابة تفاوتت من دولة لأخرى، وصلت إلى حد الحجب لبعض المواقع على شبكة الإنترنت إلى الرقابة الصارمة إلى الرقابة عن بعد. على جانب آخر، فإن "الفضاء الرقمي" صار فضاءً تمارس من خلاله الدول وجودها في خدمة المجتمع، فاختزلت الدولة في تعاملات عبر شبكة الإنترنت، فصارت الحكومات غير مرئية، لكن هذا النوع من الحكومات أصبح أكثر فاعلية، وأكثر شفافية وضد البيروقراطية.
توحد مكتسب
حول أثر التقدم التكنولوجي في تغيير منظومة القيم، وبالتالي تغيير المجتمعات، رأى عزب أن المعدل السريع للتطور التكنولوجي أدى إلى حدوث خلل اجتماعي، فأصبح هناك ما نسميها "القيم المهجورة"، هذه القيم يرى البعض أن غيابها يؤدي إلى انزلاق المجتمعات نحو المجهول، وأصبحت العزلة الفردية أزمة تعانيها المجتمعات، لدرجة توحد الفرد مع وسائل التواصل الاجتماعي في العالم الافتراضي. يقودنا ما سبق إلى طرح تساؤل مهم: هل تتغير العلاقات الاجتماعية استجابة للتغيرات التي تحدثها التكنولوجيا بكل أشكالها، وهل يتغير معيار القيم لكي يتكيف مع التغيرات الحادثة؟.
من هنا تناول عزب أهمية النظام الثقافي في المجتمعات، مبينًا أن العديد من الأفراد يحلمون بتحرير أنفسهم من النظام الثقافي المعقد، بينما نحن قادرون على إعادة تشكيل نظام ثقافي لجعله يتناسب مع تطلعاتنا نحو الأفضل، إننا لا نستطيع أن نعيش بدون نظام ثقافي يحدد طبيعة تفاعلنا، ولا يمكننا أن نختار ما إذا كنا نشارك في النظام الثقافي أم لا، إلا إذا كنا لا نريد أن نبقى على قيد الحياة؛ فبدون المشاركة في نظام ثقافي وتعلم قواعد مناسبة للمشاركة والتفاعل، لا يمكن أن تستمر بنا الحياة أو يتحقق التطور في حياتنا، ومثلما أن الناس لا يستطيعون الاستغناء عن الأدوات التكنولوجية، فإنهم غير قادرين على البقاء على قيد الحياة بدون الأدوات الثقافية المعرفية التي تمكنهم من العمل في مجتمع معقد.
قيود لا تميّز
أضاف "الحقيقة التي نتغافل عنها أننا كبشر مقيدون، حتى الملوك والوزراء والنخبة، مقيدون. هذه القيود هي نتاج النظام الثقافي؛ لذلك فإن علينا دعم هذا النظام وخصائصه، والذي يكون عادة معقدًا وأحيانًا غير مفهوم بالنسبة إلينا. حتى لو شعرنا بأنه يعمل ضد مصالحنا الشخصية بقيوده، فهذه القيود هي التي تحدّ من قدرة من هو في أعلى التسلسل الهرمي لمصلحة مَنْ هو في أدنى التسلسل".
ويوضح "من هنا تأتي أهمية الثقافات المعقدة والمركبة؛ فمن خصائصها أنها تعيد بناء نفسها بنفسها وفق مقتضيات السياق الزمني، بل تتيح للمجتمع القدرة على التعايش حتى بمتناقضاته على نحو ما هو حادث في الثقافة الهندية بكل تناقضاتها، بل نرى قدرة مصر على التعايش بصورة مذهلة منذ غزو الإسكندر إلى الفتح العربي إلى العصر الحديث، فكم مرة أعادت الثقافة المصرية إنتاج نفسها عبر العصور؟!".
يتطرق عزب إلى علم الجدل والمناظرة، مؤكدًا أن المناظرة في التراث العربي الإسلامي لم تكن ممارسة خطابية ومعرفية سائبة، بل أحكمت بقواعد وآداب على المتناظرين التزامها، ولذلك أحاطها القدامى بشروط جعلتها ممارسة منتجة لا مماحكة عقيمة، كما قيّدت الطرفين المشاركين فيها باحترام الاختلاف وتقدير المسافة بين الأفكار، وحددت المناظرة لطرفيها حقوقًا وواجبات، وأقرت طقوسًا مساعدة لها على أداء دورها المعرفي، واختصت بمجالس معينة حفظت لها هيبة العلم وفائدته، فقد أثبت البحث أن المشاركَين في المناظرة يتراوحان بين منازل الإدعاء والمنع، منتهجَين التدليل طلبًا للصواب، وسعيًا نحو الإفحام والإلزام. هذا التواجه المنتج الذي يجري داخل مجالس علمية، يقيّد المتناظرين بجملة من الآداب، فيها اعتبار الآخر والاحتراز عن الضحك ورفع الصوت، والابتعاد عن المكابرة، والاستعداد للمشاركة في بناء المعرفة.
بناء الحوار
ويوضح أن الآليات الحجاجية التي توفر للمناظرة خاصيتها الإقناعية تجلت حسب ما خلص إليه البحث في طريقة البناء الحواري، هذا البناء الحواري يؤشر إليه توزع الضمائر وأدوار الكلام وأفعاله، وتقنيات توسيع الحوار أو إغلاقه، فالضمائر الشخصية تحيل باختلافها على التفاعل الحجاجي في المناظرة. أما أدوار الكلام فتشف عن طريقة تنظيم التناوب بين المتدخلين وتكشف عن تقنيات خرقه.
وبخصوص أفعال الكلام بيّن البحث عن استناد المناظرة أساسًا إلى عبارات العرض والحكم. كما انتهى تحليل المناظرات إلى أن توسيع الحوار فيها يتم عبر التناقض. أما الإغلاق فقد يكون إفحامًا أو إلزامًا، ويتجلى الإقناع في هذا الجنس كذلك من خلال التشغيل الحجاجي للاستفهام، الذي يتحول عن دلالته الحقيقية، ويتجاوز براءته وحياده ليصبح أداة لإيقاع الطرف الآخر، أو استدراجه من خلال مضامين التبرير والتوريط والاستنكار والتقرير التي تلبسه، ويتمظهر الحجاج في المناظرة أيضًا، من خلال تشغيل النفي في مقصديات النقض والاعتراض والجحد أو التعويض، التي تحكم التعاطي مع الرأي المنافس، فضلًا عن ذلك تستعين المناظرة خدمةً لهدفها الإقناعي بالشاهد أساسًا القرآني والشعري، لما لهما من سلطة في الإفحام وتحقيق الاعتقاد.
تحريم القهوة
هنا تدرك لماذا اكتسبت المجتمعات الإسلامية الثقة في ذواتها، فأي فكر لم يكن مرفوضًا لذاته، هذا ما نراه في مدرسة الأزهر العلمية التي ورثت مدرسة مسجد عمرو بن العاص واعتبرت امتدادًا لها، لقد تميزت هذه المدرسة بالنقدية المذهبية التي تقوم على حوارات يومية داخلها بين مختلف الآراء المذهبية، حتى أسقطت فتوى لأحد مشايخ الأزهر في القرن السادس عشر ميلاديًّا فرمان السلطان سليمان القانوني بتحريم مشروب القهوة، الذي كان يراه علماء إسطنبول كمشروب الخمر. إلا أن الشيخ زكريا الأنصاري أخذ بالمشاهدة العينية لشاربي القهوة ومعاينة حالتهم بعد الشرب، وأكد أن مشروب القهوة غير مسكر، فأفتى بحل المشروب فانتشرت القهوة في كل أنحاء العالم.
ولفت عزب إلى أنه في ضوء ذلك يمكن أن نفهم تقبل المسلمين الآراء الجديدة والفكر الجديد، إلا أن انغلاق هذه المجتمعات على ذواتها، وعدم إدراكها ما يحدث حولها جعلها مجتمعات ترفض الجديد القادم من الآخر، حتى ولو كان تجريم عبودية الإنسان للإنسان، وهو مبدأ إنساني أقرّه مجلس العموم البريطاني، وقاومه العديد من المجتمعات الإسلامية إلى القرن العشرين، على الرغم من تسامي هذا الهدف مع القيم العليا للإسلام، ومنها حفظ النفس الإنسانية، كما في مقاصد الشريعة. لقد جعلت الثقة في الذات الإسلامية المسلمين يقبلون قول البيروني بكروية الأرض بقوله: "إن القائم في محل منكشف الأفق ليس فيه شيء يمنع النظر إلى جميع الجهات يرى الأرض دائمًا على صفة مستوٍ مستدير من أي وجهة نظر إليه".
يقودنا هذا إلى أزمة المجتمعات المعاصرة، أزمة مجتمعات تبحث عن هويتها، وتدرك أن هناك تهديدًا قاسيًا لهذه الهوية، حتى إن قارة كأوروبا، ودولة كالولايات المتحدة، تتصاعد فيهما الحركات اليمينة المتطرفة، الداعية إلى الانغلاق وطرد المهاجرين، في حين تبدو في المجتمعات العربية والإسلامية حركات قلقة، تدرك أن هناك تهديدًا لذاتها امتد كأنه تهديد للدين الذي تدين به ذاتها، فأصبح هناك عدو متخيل يهدد الدين وجوده، فيتحول بعض أفراد هذه المجتمعات إلى قلقين مهددين باحثين عن الهوية، معتبرين الدين هو المكون الوحيد للهوية، وفي ظل الفشل وعدم امتلاك الثقافات الحديثة والتحول لمستهلكين لها، يفقد هؤلاء إحساسهم بذواتهم، ويعيشون حالات اغتراب، يهجرون مجتمعاتهم، لعدم اتساق ذواتهم مع هذه المجتمعات، فيمارسون أقسى درجات العنف.