في ظل واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في العالم و نتيجة الانهيار المالي الذي تعاني منه البلاد يعاني قطاع الصحة في لبنان من أزمات متتالية أدت إلى تفكك نظام الرعاية الصحية بشكل سريع بسبب شح الوقود ونقص حاد في الأدوية والمستلزمات الطبية وصولا إلى هجرة الطواقم الطبية مما وضع المستشفيات اللبنانية في حالة من العجز بين توفير مستلزمات المرضى ورواتب الممرضين والأطباء.
مرضى بدون دواء
ويعيش المرضى في لبنان معاناة في توفير أدويتهم، في ظل اشتداد الأزمة الاقتصادية، التي ضاعفت آلامهم الجسدية والنفسية، إذ بدأت أنواع عديدة من الأدوية بالنفاذ من الصيدليات.
وبعد قرار الحكومة اللبنانية تقليص الدعم عن الدواء ارتفعت أسعارها ما بين 10 و12 ضعفا، بالإضافة إلى فقدانها من السوق. وتعد أدوية الأمراض المزمنة حاجة ضرورية للمرضى الذين يعانون من أمراض تستوجب تناول الأدوية بشكل دائم ومنتظم.
تقول غايانيه التي اضطرّت إلى تقليص عدد أدوية والدها من 12 إلى ثلاثة بسبب الضائقة الاقتصادية، “أنا بعرف إنّي عم بقتل بيّي على البطيء، عم شوف بيّي عم يموت قدامي وما قادرة أعمل شي”، حيث تجاوز ثمن الأدوية الثلاثة لعلاج أمراض القلب والضغط والبروستات، مليوني ليرة لبنانية، معتبرةً أنّ ما يحدث اليوم تجاه الشعب اللبناني هو أصعب وأقسى من المجزرة التي عاناها أجدادها الأرمن.
أما جمانة التي يخضع زوجها إلى ثلاث جلسات غسيل كلى في الأسبوع، أصبح يعاني من فقر حاد في الدم نتيجة توقفه عن تناول الفيتامينات اللازمة، ومنها على سبيل المثال “ONE ALPHA” وأحياناً دواء ( FOSRENOL 750). وتستعين جمانة بأقاربها في الخارج الذين يؤمنون لها بعض الأدوية، وفي أحيانٍ أخرى تلجأ لطلب المساعدة عبر مواقع التواصل الاجتماعي. إلاّ أن المصدر الأساسي لتأمين بعض أدويتها بات مؤخراً تجّار “السوق السوداء”، هؤلاء أشخاص باتوا معروفين لدى مرضى غسيل الكلى ويؤمّنون لهم حبوب الأدوية بسعرٍ مضاعف، كذلك يتعاون المرضى فيما بينهم فيتبادولون الكبسولات ويتقاسمونها كلّ بحسب حاجته واضطراره.
نقص الأدوية وصل للمواد المخدرة (البنج)، فبعد أزمة فقدان أنواع عدة من أدوية الأمراض المزمنة والمستعصية من السوق اللبناني، ها هي المستشفيات تواجه نقصا في دواء أساسي لا يمكن من دونه إجراء عمليات جراحية.
ويحاول لبنان تغطية الشح بالدواء المستورد لعدم توافر الأموال من خلال دعم صناعة الدواء محلياً، لكن هناك بعض الأدوية كالبنج مثلاً لا يُصنع محلياً. ويُصنع لبنان 1161 دواءً من ضمن عشرين فئة علاجية للأمراض الأساسية والمزمنة مثل القلب، الضغط، السكري، الكولسترول، سيلان الدم، الربو، الالتهابات والحساسية إضافة إلى بعض الأمراض السرطانية. غير أن هذا الانتاج غير كافي لسداد حاجيات المرضى .
وضع استشفائي كارثي
لا يختلف لبنانيان عن الأوضاع الكارثية التي وصلت اليها المستشفيات في البلاد في ظل أزمة إقتصادية خانقة حيث أصبحت مهددة بالإغلاق وهو ما عبر عنه هارون نقيب أصحاب المستشفيات الخاصة حيث قال أن «استمرار الوضع على ما هو عليه يهدد بإغلاق عدد كبير من المستشفيات، خصوصاً أنه وبعد رفع الدعم ارتفعت أسعار بعض الأدوية 10 مرات كما أصبحت التكلفة اليومية للمازوت على كل مريض نحو 40 دولاراً»، لافتاً إلى أن تكلفة الاستشفاء باتت غير منطقية وهو ما سيؤدي لموت الناس في بيوتهم، علماً بأن نسبة دخول المستشفيات تراجعت 50 في المائة وبتنا نستقبل حالات صعبة جداً، ما يؤكد أن المريض لا يذهب إلى المستشفى إلا بعد أن تسوء حالته كثيراً».
وفي سياق متصل، أقرّ الدكتور جوزيف حلو، مدير العناية الطبية في وزارة الصحة اللبنانية، بأن القطاع الاستشفائي في خطر كبير، فهو انعكاس لواقع البلاد اقتصادياً ومالياً، كما أن "تسعيرة الدولة تلتزم بدولار 1500 ليرة، في وقت تسعّر الخدمات بدولار السوق السوداء"، و" في غياب موازنة جديدة للدولة، تضطر الجهات الرسمية إلى التزام التسعيرة القديمة التي لا تراعي التغييرات الكبيرة في قيمة الخدمات وسعر الدولار"، بالتالي، فإن هذا الفارق يتحمله المواطن المريض.
وبالنسبة إلى عضو لجنة الصحة النيابية فادي علامة، فإنّ "الوضع كما هو المسار اليوم غير مطمئن، والمستشفيات تعمل بأقلّ من أربعين في المائة من قدرتها الاستيعابية، في ظل ارتفاع الأعباء التشغيلية والتكاليف وهجرة الممرضين والأطباء كذلك. حتى إنّ ثمّة اختصاصات صارت نادرة، مثل الطوارئ وجراحة الشرايين. وهذا أمر يؤثّر حتماً بجودة العلاج والعمل الجراحي، وتُضاف إلى ذلك أزمة الدواء والنقص المسجّل في السوق وكلفة المستلزمات العالية وعدم قدرة المواطن على التحمّل، في ظلّ الغلاء الذي يطاول كلّ القطاعات والخدمات والمواد وانخفاض القدرة الشرائية".
هجرة الأطباء
الأزمات التي يتخبط فيها قطاع الصحة في لبنان أدت إلى هجرة أيضا آلاف الأطباء والممرضين وإقفال عدد كبير من الصيدليات وسط تحذيرات جدية من إقفال عدد من المستشفيات التي «لم تعد قادرة على تأمين مصاريفها ورواتب موظفيها».
في هذا الصدد، يرى نقيب الأطباء شرف أبو شرف أن «مدخول الأطباء الشهري تراجع بشكل كبير، فوفقا لدراسة أعدتها نقابة الأطباء بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية كان هناك 55 في المائة من الأطباء معدل معاشاتهم مليونا ليرة أي ما كان يوازي 1200 دولار أميركي، وبعد الأزمة بات يساوي نحو 62 دولار أميركي».
وأكمل: «إضافة إلى أن الأطباء يُعانون، كما باقي المواطنين، من عدم قدرتهم على الوصول إلى أموالهم في المصارف، فضلا عن تراجع قيمتها بشكل كبير. لذا، فإن الانهيار الاقتصادي الذي عاشه لبنان أثر سلبا على هذا القطاع ودفع قسما كبيرا من الأطباء إلى الهجرة».
ونتيجة تراجع قيمة الدخل الفعلي لموظّفي القطاع الصحي بحدود 80٪، وفقدانهم الثقة في قدرة الدولة على معالجة الأزمات العديدة التي تعصف بلبنان، غادر لبنان عدد كبير من الأطباء والطبيبات والممرضين والممرضات علما أنّ كثيرين منهم من بين الأكثر كفاءة. ويقول د. أبو شرف نقيب الأطباء في لبنان في هذا الصدد "أنّ أكثر من 400 طبيب وطبيبة هاجروا العام الماضي نتيجة الأزمة وكثير من الأطباء يخططون حاليا للهجرة" .
وفي هذا الصدد قالت نقيبة الممرضين\ت: "إنّ القطاع الصحي يشهد هجرة جماعية أدت إلى زيادة الأعباء على القوى العاملة في المستشفيات واضطرار عدد كبير منهم للعمل ساعات إضافية" والضغط على العاملين في القطاع الصحي كبير جدا، إذ يوجد ممرض\ة لكل 20 مريض\ة في بعض المستشفيات، وهذا يخالف المبادئ التوجيهية للنقابة التي تنصّ على وجود ممرض\ة لكل 8 مرضى في الأجنحة العادية ووجود ممرض\ة لكل مريضين في وحدة العناية الفائقة، وهذا انتهاك للمبادئ التوجيهية للنقابة ولمعايير المستشفيات"
وتضيف الممرضة ع. ز. التي تعمل في مستشفى في بيروت: "راتبي لم يعد كافيا، أتقاضى مليون و300 ألف ل.ل. بالكاد تكفيني لتغطية الحد الأدنى من المعيشة، وعلى أن أدفع الإيجار والفواتير والأكل والشرب والتنقل، صراحة لا أدري ماذا أفعل، لا زيادة على الرواتب ولا تعديل، ولا مكافآت ولا شيء بتاتا" .
وفي مسح اجتماعي سريع أجراه "المرصد اللبناني لحقوق العمال والموظفين" للعاملين في القطاع الصحي أظهر تميّز القطاع الصحي في لبنان بغالبية من القوى العاملة النسائية (حوالي 55٪ من العاملين فيه من النساء، وبتمركزه في ثلاث مناطق رئيسة هي بيروت وجبل لبنان والبقاع (حوالي 77٪ من المؤسسات الصحية). وأنّ غالبية العمالة النسائية تتركّز في التمريض والمختبرات والصيدلة والإدارة والتنظيف.
كما أظهر المسح فروقات كبيرة في الأجور بين العاملين، (بلغ الفرق بين متوسط أجور الطبيب\ت والعمال\ت حوالي 21 مليون ل.ل.) وفروقات بين أجور العمال اللبنانيين وغير اللبنانيين، وغياب سلم للرتب والرواتب وعدم الالتزام بمراسيم غلاء المعيشة (71٪ من المؤسسات لا تلتزم به).
وأظهر المسح أنّه نتيجة الأزمة المالية والاقتصادية خفضت المؤسسات الصحية أجور العمال\ت، وحوّلت عدد منهم إلى دوام جزئي، وصرفت بعضهم الآخر دون دفع تعويضات لهم\ن وأظهر قصورا في التجهيز التام للمؤسسات للمعوقين ولذوي الاحتياجات الخاصة (حوالي 33٪ من المؤسسات غير مجهزة).