مضى 50 يوماً على بدء الانتفاضة الإيرانية إثر مقتل مهسا أميني بفعل ضربات دورية إرشاد. وعلى عكس نوفمبر 2019، عندما تمكنت حكم الملالي من السيطرة على الوضع في غضون خمسة أيام بقمع شديد، وعلى الرغم من التهديدات المتكررة من قادة الحرس وسلطات الدولة، اتضح أنه لا يمكن للنظام الحاکم أن یتغلب على انتفاضة الشعب الإيراني الواسعة من خلال القمع الدموي.
السؤال الذي يدور في أذهان الجميع: إلى أين تتجه إيران؟
تهمس السلطات، وأولئك الذين لديهم نوع من الارتباط العضوي بالنظام، إجابة واحدة: الحرب الأهلية، مثل سوريا وليبيا. صورة تستحضر في الغالب في أذهان السياسيين والمراقبين الأجانب خوفاً مانعا من مشاهد الدمار والقتل والتهجير لملايين الناس مثلما حدث في سوريا. مصالح النظام من نشر هذه الصورة واضحة ولا تحتاج إلى تفسير.
في عام 1978، سلّطت وسائل الإعلام الرسمية لنظام الشاه الضوء على الصورة المروّعة للبنان وحربه الأهلية، مذكّرة المتظاهرين الذين نزلوا إلى الشوارع ضد الشاه بصورة لبنان الأليمة. سيناريو لم يحدث قط في إيران.
لكن الدوائر التي تحذّر الآن من الحرب الأهلية تجادل بأن نظام الشاه لا يمكن مقارنته بنظام الملالي؛ لأن النظام الحالي هو أولاً وقبل كل شيء نظام أيديولوجي، وفي الخطوة التالية لن يجد قادته مكانًا للهروب في أي مكان في العالم. والنتيجة أن قادتها، خلافاً نظام الشاه، سيقاتلون حتى النهاية، ولا مجال للاستسلام أو التسوية. بهذه الطريقة، يمكن أن يكون سيناريو الحرب الأهلية حقيقيًا.
لتوضيح الموضوع، يجب توضيح أن الحرب الأهلية لا تخضع لتشدّد الحكام وقواتهم العسكرية، بل تحدث نتيجة لظروفها الاجتماعية والتاريخية. ومراجعة تاريخ إيران لا تساعد لهذا الاحتمال.
- على عكس سوريا وليبيا ولبنان، التي ظلّت دولًا "مصطنعة" منذ ما يقرب من قرن من الزمان في مناطق تم تحريرها من الإمبراطورية العثمانية أو غير ذلك، فإن إيران دولة لها ما يقرب من ثلاثة آلاف عام من تاريخ التعايش الوطني المستقل في حكومات مختلفة وذات الانتماءات الأيديولوجية والعرقية المختلفة، لکن لم يشهد حربًا أهلية ضخمة من قبل.
- لطالما كان في التاريخ المعاصر لإيران حكومة مركزية قوية نسبيًا، بحیث لم تكن هناك مناطق مستقلة نسبيًا عن الحكومة المركزية حتى خلال الحكومات المركزية الأضعف، أي حكومة قاجار. ولم تتحدث المجموعات الإثنية الإيرانية عن الانفصالية إلا بتحريض من الأجانب. على سبيل المثال، الحركة الشعبية الكردية في إيران، على عكس العراق وتركيا وسوريا، لم تدعوا أبدًا إلی الانفصالية وبقیت رغبتها التاريخية تقتصر على الحكم الذاتي. أتراك إيران، الذين يشكلون أكبر أقلية عرقية في البلاد، لم يتحدثوا حتى عن الحكم الذاتي إلا في مرحلة ما مع إغراء واستفزاز الاتحاد السوفيتي خلال حکم ستالين بُعید الحرب العالمية الثانية.
- الحكومات الإيرانية، حتى في ظلّ السلالتین القاجارية والصفوية، واللتان كانتا أساسًا من أتراك إيران الأذرية، لم تعتمدا أبدًا على رغبات وقوة وقدرات أمة أو قبيلة أو قسم اجتماعي معين في البلاد، ولم تمثلا رغبات أو نوايا مثل هذا القسم. على عكس سوريا، بشار الأسد، حيث سيطرت الأقلية العلوية على السلطة بأدواتها المختلفة؛ أو حتى العراق، حيث كان تقسيم السلطة قائمًا على الأقليات الدينية أو العرقية، في إيران، لم القبلية والعرقية والدينية أساس الانقسامات والعامل المحدد للحيازة المناصب في السلطة. بالطبع، خامنئي على وجه الخصوص، لأنه كان نازلاً جدًا في التسلسل الهرمي للملالي، ولم يقبله أحد داخل إيران في البدایة، حاول تشكيل جزء كبير من بطانته الرئيسيّة مع العراقيين.
- لم يكن للحكومات في إيران أساس إقليمي أو محلي. إن حكم الملالي مكروه في مدينة قم الدينية كما هو الحال في مدن شمال البلاد أو إقليم كردستان أو محافظة سيستان وبلوتشستان.
- التاريخ المعاصر لإيران بعد فشل الثورة الدستورية بالتدخل المباشر للقوزاق الروس، شهدت عدة حركات تحرر إقليمية: انتفاضة تبريز وأذربيجان ضد الحکم الاستبدادي الذي أغلق المجلس الوطني الشعبي المنتخب ودمّره بالمدافع؛ لکنهم أخيرًا أطاحوا بالحكومة الديكتاتورية في طهران من خلال التعاضد والتلاحم مع قوات جاءت من أجزاء أخرى من إيران. وبعد فترة قصیرة، شهدنا حركة إقليمية تسمى حركة الغابة في شمال إيران، وحركة ديمقراطية في أذربيجان، وحركة عسكرية قومية في خراسان، تم قمعها جميعًا بسرعة من قبل الحكومة المركزية القوية. على الرغم من أن هذه الحركات كانت على ما يبدو "إقليمية"، إلا أنها لم تعتبر أبدًا أن هدفها يقتصر على منطقة واحدة، لکن جمعیها کانت قضیتها تحریر إیران بأكملها.
- وبالنسبة للقوات المسلحة، لا شك أن القوة التي یعتمد علیها نظام ولاية الفقيه هي جيش خاص أُنشئ تحت اسم الحرس الثوري الإسلامي. وتستمد قوات الحرس ثباته واستمراريته من طبيعة نظام ولاية الفقيه ومن شخصية الولي الفقيه. وبضربة لولاية الفقيه، ستتفكك قوات الحرس أيضًا دون شکّ. فكرة استمرار قوات الحرس بدون وجود سلطة زعيم ديني تعود إلى نقص المعرفة الكافية بالجانب الأيديولوجي لقوات الحرس، ولهذا السبب نری في الانتفاضة الحالية أن بعد خامنئي، الحرس الثوري قوات البسیج هما الهدفان الرئيسيان لشعارات وأعمال الثوار والمنتفضین.
تطور كبير آخر حدث باستمرار على مدار الخمسين يومًا الماضية هو تقارب كل التنوعات العرقية وحتى الدينية لجميع أبناء الشعب الإيراني ضد سلطة نظام ولاية الفقيه. لا في كردستان ولا في بلوشستان ولا في خوزستان ولا في أذربيجان، لا يوجد حديث عن الحقوق الخاصة لهذه المناطق. الكل يهتف بصوت واحد ضد خامنئي والاستبداد الديني. لأن الجميع يعلم أن الطريقة الوحيدة لتحقیق حقوقهم هي إنهاء هذا النظام الإجرامي وإقامة جمهورية ديمقراطية.
إذن، كانت تطورات تقدم الثورة الإيرانية خلال هذه الفترة القصيرة تقاربًا بين كل مکوّنات الشعب الإيراني وليس تباعدًا. وهذه الحقيقة تبطل النظريات التي تتحدث عن مصیر سوریا أو لیبیا فيإیران.