على الرّغم من أنّ موجة الاحتجاجات الحالية المتصاعدة في إيران منذ 17 سبتمبر/ أيلول الفائت، لم تكن الأولى التي يواجه فيها النظام الثيوقراطي الإيراني اضرابات واحتجاجات جماعية، إلا أن هذه الموجة من الاحتجاجات تعد مختلفة عن غيرها من الاحتجاجات السابقة سواء في نطاقها أو في حركيتها أو مطالباتها وشعاراتها، ومع كل التحليلات التي تناولت مآلات هذه الاحتجاجات وسيناريوهاتها المتوقعة يمكن الوقوف على سبعة أسباب رئيسة تجعل من هذه الاحتجاجات استثنائية وغير مسبوقة وتشكّل تحدٍ كبيرٍ للنظام الثيوقراطي الإيراني قد يكون لها آثار بعيدة المدى على مستقبل النظام الإيراني واستدامته.
أوّل هذه الأسباب، الدور الريادي للمرأة في الاحتجاجات الحالية، وهذا الدور يظهر من خلال قيادة المرأة لأول احتجاجات في إيران، فهي المرة الأولى التي تكون فيها المرأة هي الشعلة والمحرك لثورة مضادة، وكذلك هي المرة الأولى التي يكون فيها الشعار المركزي للاحتجاجات والمظاهرات متعلّق بالمرأة "المرأة والحياة والحرية"، وبالتالي فالاحتجاجات الإيرانية الحالية هي احتجاجات استثنائية لأنها احتجاجات عن المرأة وحرية المرأة وليست مجرد اضطرابات تشارك فيها المرأة، كما أن انطلاق الاحتجاجات من حادثة تتعلق بالمرأة وهو الحجاب يظهر تمرّد المجتمع الإيراني على أهم الرموز التي يستخدمها النظام الثيوقراطي الإيراني للسيطرة على المجتمع الإيراني، ويظهر أيضاً مدى وجود وعي مجتمعي جماعي بالتحديات التي تواجهها المرأة الإيرانية.
ثاني هذه الأسباب، جرأة المحتجين والمتظاهرين سواء في الشعارات المرفوعة أو في المطالب المطروحة أو في التكتيكات المتبعة، ففي الثورات والاحتجاجات السابقة، كانت أغلب المطالب تدور حول إصلاح النظام السياسي في إيران، أو حول تحسين الأوضاع المعيشية والاقتصادية للمواطنين، أو احتجاجاً على تصرفات وأفعال معينة كنتائج الانتخابات، أمّا في الاحتجاجات الحالية ظهرت جرأة المتظاهرين والمحتجين من خلال شعاراتهم ومطالبهم وتكتيكاتهم، فالمتظاهرون هذه المرّة لم يطالبوا بإصلاح النظام السياسي في إيران، وإنما يطالبونا بإسقاط النظام وتغييره، كذلك تجرأوا على رموز النظام الأساسية من خلال نزع صور المرشد علي خامنئي وصور قاسم سليماني وحرقوها في إشارة واضحة لتحدّي نموذج الحكم القائم ورفضه، كما اتبعوا تكتيكات احتجاجية جديدة لم تظهر في الاحتجاجات السابقة بهدف الحفاظ على استمرارية حركة الاحتجاج وعدم خفوتها، كالاحتجاجات الخاطفة ضمن مجموعات صغيرة، ورسم الجداريات المناهضة للنظام الإيراني الأمر الذي يشكّل نقطة تحوّل مهمّة تتقارب فيها القضايا الاجتماعية والسياسية ويظهر مدى تزايد حالة اليأس والإحباط، فما بدأ كغضب ضد الحجاب الإلزامي والقيود المفروضة على لباس المرأة وسلوكها في الأماكن العامة، تطور إلى انتقادات ضد النظام الحاكم والمطالبة بإسقاطه وتغييره.
ثالث هذه الأسباب، أنّ هذه الاحتجاجات فنّدت فكرة أنّ السياسة الإيرانية تنحصر في معركة بين ما يسمّى بالعناصر الإصلاحية والعناصر المحافظة داخل النظام الإيراني، وبالتالي استطاعت هذه الاحتجاجات تجاوز الاستقطاب الثنائي التقليدي داخل النظام الإيراني بين الإصلاحيين والمحافظين، وفرضت قوة ثالثة في المشهد الإيراني تمثلت بقوة الشارع الذي أصبح يتحرّك بوعي شعبي بعيداً عن توجيهات أو التبعية لأي تيار من التيارين الرئيسيين الموجودين على الساحة الإيرانية، وهذه القوة الثالثة قد تساهم في إعادة تشكيل خريطة التوازنات السياسية الجديدة.
رابع هذه الأسباب، تحرّك الاحتجاجات بلا رأس، أي غياب القيادة الواحدة للاحتجاجات، بحيث لا يستطيع أي شخص أو حزب أو حركة سياسية داخل إيران أو خارجها ادّعاء قيادة الحراك. وغياب هذا الرأس وتعدد الشرائح المشاركة في الاحتجاجات ولّد مجتمع مدني لا يعرف الخوف تحركه المطالب الشعبية النابعة من الوعي الشعبي، يضاف إلى ذلك مركزية دور الشباب من طلاب المدارس والجامعات الذين تتراوح أعمارهم بين 17 و25 عاماً، في قيادة هذه الاحتجاجات، وهذا ما أكدته وكالة أنباء فارس الإيرانية التي أشارت إلى أن 42 بالمئة من المعتقلين في الاحتجاجات الحالية هم من الفئة العمرية التي تقل عن 20 عاماً، و48 بالمئة من المعتقلين هم من الفئة العمرية التي تقع بين 20 و25 عاماً.
خامس هذه الأسباب، تعدد الرموز الاحتجاجية، فصحيح أنّ مهسا أميني بعد مقتلها على يد شرطة أخلاق النظام في إيران تحوّلت إلى الرمز الأساس الذي أدّى إلى اندلاع الاحتجاجات ضد النظام الإيراني، إلا أن مصرع شابات أخريات على يد القوات الأمنية الإيرانية أيضاً مثل نيكا شاهكرامي، وسارينا إسماعيل زاده، أدى إلى ظهور رموز احتجاجية جديدة أعطت دفعاً جديداً لاستمرار الاحتجاجات وزخمها، ومع استمرار القوات الأمنية الإيرانية في استخدام القوة والعنف ضد المتظاهرين والمحتجين، من المتوقع أن تظهر رموز احتجاجية جديدة ستقود إلى استمرار الاحتجاجات وتوسعها أكثر وربما الوصول إلى نقطة اللاعودة، خصوصاً بعد بروز الدور الواضح لما سمّي بكتيبة الإعدام النسائية أو "الزينبيات"، اللاتي لم يكن لهن حضور ميداني فعلي في أي احتجاجات سابقة.
سادس هذه الأسباب، انتشار المظاهرات والاحتجاجات على رقعة واسعة من الجغرافيا الإيرانية وعدم مركزيتها أو اقتصارها على المدن الكبرى والرئيسية، هذا إلى جانب حدوثها في المحافظات التي نادراً ما شهدت مظاهرات مناهضة للنظام الإيراني منذ توطيد أركانه، وهذا لا يشمل فقط بلوشستان الواقعة على الحدود الباكستانية، ولكن مقاطعات بحر قزوين جيلان ومازاندران وكلستان، يضاف إلى ذلك التضامن الواضح بين المكونات والمجتمعات العرقية والمذهبية والثقافية المتنوعة في إيران وهو أمر لم يحصل من قبل في الثورات والاحتجاجات السابقة التي كانت تشهد انقسامات بين الجماعات العرقية والدينية والمناطقية، فضلاً عن المدن والضواحي الرئيسية، يضاف إلى ذلك المشاركة الواسعة من قبل المهنيين والموظفين وطلاب المدارس والجامعات، وكذلك العديد من المشاهير الرياضيين والفنانين والصحفيين والمعارضين الذين انضموا إلى صفوف المتظاهرين سواء على وسائل التواصل الاجتماعي أو حتى في الاحتجاجات والمظاهرات على الأرض.
سابع هذه الأسباب، البعد الدولي الواسع للتضامن مع هذه الاحتجاجات، والذي تمثّل بشكل أساس في العدد الكبير من الاحتجاجات والتجمعات الخارجية لدعم الاحتجاجات الإيرانية في الداخل، وكذلك بتضامن الكثيرات من المشاهير حول العالم مع المرأة الإيرانية ضد ممارسات النظام القمعية وهو ما تجلّى من خلال انتشار مئات آلاف من الصور والأعمال الفنية وفيديوهات لنساء يقمن بقص شعرهن تحت هاشتاغ مهسا أميني، الذي تخطى 200 مليون مرّة على منصة تويتر، وهو الرقم القياسي في تاريخ إطلاق الوسم بمنصات التواصل الاجتماعي.
بالمحصلة، برهنت الحركة الاحتجاجية الإيرانية الحالية، والتي تشكل أكبر تحدٍ لرجال الدين الذين يحكمون إيران منذ عقود، أنها تختلف عن مثيلاتها من الاحتجاجات السابقة من نواحٍ عديدة ثقافية واجتماعية وأمنية، بعد أن أثبت قدرتها على الاستمرار رغم حملة القمع الشديدة التي أودت بحياة ما لا يقل عن 250 شخصاً، وفرضت نفسها كقوة ثالثة في المشهد الإيراني "قوة الشعب"، وعمقت الشرخ وحال الانقسام بين السلطات وأغلبية المجتمع الإيراني، الأمر الذي يرى فيه البعض بداية نهاية للنظام الثيوقراطي الإيراني.