يقول رئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرشل "أدرس التاريخ، فهناك تكمن أسرار الحكم"، فرغم كل التطورات والمستجدات التي يشهدها العالم إلا أن التاريخ يبقى بيت الحكمة وخلاصة التجارب وقد يعيد نفسه مراراً وتكراراً بنفس الأحداث والنتائج.
لعل ما يحدث في إيران في هذه الفترة من مظاهرات واحتجاجات مستمرة منذ أسابيع ليست سوى إعادة لتاريخ قريب عاشته إيران ذاتها في العام 1979 عندما تم إسقاط حكم الشاه محمد رضا بهلوي ليتغير وجه إيران تماماً وينقلب بشكل كامل على كل ما كان قائماً قبل عودة الخمينى إلى طهران قادماً من فرنسا.
الثورة الإيرانية لم تكُن وليدة لحظة، بل بدأت ارهاصاتها منذ العام 1963 عندما أُوقدت شعلة الاحتجاجات ضد البرنامج الإصلاحي للشاه والمسمى "الثورة البيضاء"، ولم تنقطع الاحتجاجات والمظاهرات رغم كل القمع الذي استخدمته منظمة المخابرات والأمن القومي "السافاك" ضد المتظاهرين، فالخميني وقياداته أدركوا تماماً أهمية "الفكرة" في حشد الجماهير وعدم الاتكاء فقط على المطالب المعيشية المرتبطة بتراجع الوضع الاقتصادي والبطالة وارتفاع معدلات التضخم.
فكرة "ولاية الفقيه" كان شعارها حماية الشريعة والوقوف في وجه العمالة للغرب، إذ كانت "أشرطة الكاسيت" التي يهربها أبتاع الخميني إلى إيران وقوداً للثورة وشحذاً لعزيمة المتظاهرين، حتى الوصول إلى مرحلة اسقاط النظام بأكمله، وكل ذلك جرى والشاه جالس على عرشه مطمئناً وليس في وارد أن يسأل نفسه السؤال الأهم: لماذا كل هذه الاحتجاجات منذ 1963 وما الذي يدفع المتظاهرين للخروج دون أن يردعهم الأمن أو تقلقهم الممارسات القمعية التي يقوم بها "السافاك"؟ ويبدو أن هذا السؤال لم يخطر على باله إلا وهو يقود بنفسه طائرته البوينغ 707 مغادراً إيران بلا عودة.
إيران اليوم ليست ببعيدة عن تلك اللحظة، فمنذ سنوات عديدة والاحتجاجات والمظاهرات المطلبية المنددة بالفساد وسوء الأوضاع الاقتصادية والبطالة مستمرة، وكل هذا والنظام يزداد توحشاً وخبرة في قمع المتظاهرين، وفي كل مرة يتم إخماد التظاهرات ويعود النظام إلى ذات نمط الحكم ذاته كأن شيئاً لم يحدث، إلا أن الوضع الآن قد يكون مختلفاً كلياً فالمظاهرات الأخيرة وجدت "الفكرة"، إذ أن ما يجري اليوم ليس مرتبطاً بمطالب معيشية وإن كانت تغذي حالة الغضب إلا أنها ليست "قلب المظاهرات" فما يحرك الناس اليوم كفرهم الواضح بنمط الحكم ونظام ولاية الفقيه، والعديد من فئات الشعب منخرطة بالمظاهرات التي كانت شرارتها مقتل الشابة الكردية مهسا أميني، لتشعل الحادثة فكرة اسقاط النظام والثورة ضد كل ما يفرضه حكم المرشد بحجة حماية الدين والأخلاق، فكما جاء الخميني بفكرة حماية الشريعة لخلع الشاه، قد يعيد التاريخ نفسه في مطالب المتظاهرين بخلع المرشد لحماية الحقوق والحريات الشخصية.
المتظاهرون الإيرانيون وجدوا ضالتهم ومفجرة شرارة ثورتهم الحقيقية "مهسا أميني"، ليعبروا عن سخطهم ورفضهم لنظام قائم على فرض الأخلاق والقيم والتقاليد بما يخدم مصالحه، دون أن يراعي حقوق الناس في العيش حسب معتقداتهم وأفكارهم، فكما كان الخميني يرسل أشرطته "الكاسيت" ليدافع عن الشريعة كما كان يدعي، يواجه النظام اليوم كل وسائل التواصل الاجتماعي ليعلن الشباب عن توجهاتهم ورفضهم للنظام برمته.
الشاه تأخر 16 عاماً ليواجه الحقيقية ويسأل نفسه السؤال الأهم: لماذا يخرج الناس ضد حكمه؟ والنتيجة خسارة عرشه، والمرشد اليوم متأخر جداً في سؤال نفسه ذات السؤال، وما زال النظام الإيراني في ذات الغرور الأمني الذي اطمأن له الشاه قبل عقود، وقد لا يحتاج الوضع الحالي لسنوات طويلة ليصل فيها المرشد إلى لحظة "طائرة اللاعودة".
التاريخ يعيد نفسه فكما استخدم الخميني فكرة حماية الشريعة والوقوف في وجه العمالة للغرب لإسقاط الشاه، قد يسقط نظام ولاية الفقيه بفكرة "مهسا أميني".